الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

صبرٌ على .. وصبرٌ عن ..!

صورة

إبراهيم كشت - يبدو أن تجارب الحياة ، وملاحظة الوقائع ونتائج الأحداث ، والتأمل والقراءة ، وتوسُّع مدارك المرء على مرِّ السنين ، تَهديهِ إلى إدراك معنى (الصبر) كقيمة انسانية أخلاقية ايجابية ، وتجعله يتيقّن أنه من الخطأ فعلاً أن نفهم (الصبر) على أنه حالة سلبية ، أو سلوك يعبّر عــــن القبول المقترن بالعجز ، أو الرضا المصحـوب بالإذعان ، أو القناعة النابعة عن الاستسلام . فالصبر من حيث ماهيته قدرة وقوة ، لا يَحوزُها خائر الهمة ، ولا يحظى بها ضعيف العزيمة . وضدُّ (الصَّبر) كما تقول معاجم اللغة هو (الجَزَع) ، والجزع يشير إلى معنى عدم القدرة على الاحتمال ، أي فقدان المرء للقوة التي تمكنه من الثبات والصمود أمام الآلام والمصاعب والشدائد ، حتى أن لفظ (الجزع) بالإضافة لكونه يحمل المفهوم النقيض للصبر ، فإنه يفيد معنى تجْزيء الشيء وتقطيعه ، فكأنما أرادت أُصول اللغة أن تقول لنا : إن صورة من يجزع ولا يصبر أمام الشدائد ، هي صورة النفس التي تتفتت وتتمزق أمام الصعوبات والتحديات ... ! 
وهذه محاولة مني لتحليل مفهوم (الصبر) الى عوامله الأولية ، واستقصاء دلالاته وأعماقه وآفاقه :
•    في معنى الصبر : 
يُعبِّرُ مفهوم (الصبر) عن حسن الاحتمال والقدرة على الانتظار ، وقالت بعض القواميس أنه الانتظار في هدوء واطمئنان . على أية حال يبدو أن للصبر نوعـين هما : صبر (على) ، وصبر (عن) . أي صبر على الآلام والشدائد ، وصبر عن الرغبات إذا كانت متنافية مع الدين أو الأخلاق أو القيم أو الفضيلة ، على أن من معاني لفظ (الصبر) أيضاً في اللغة (الحبس) ، فكأنّ الصبر كقيمة يشير في أحد معانيه إلى حبس النفس عن أهوائها التي لا ينبغي أن تأتيها ، لمخالفتها للضمير والأخلاق والمبادئ والإنسانية .

الصبر .. قيمةٌ تتوافق مع قوانين الوجود :
أعتقدُ أن الصبر من أكثر القيم والفضائل توافقاً مع طبيعة الأشياء وقوانين الحياة ، فإذا كان (أي الصبر) يشير إلى معنى قوة الاحتمال والقدرة على الانتظار في هدوء واطمئنان، كما يُفهم مما تقوله المعاجم ، فإن هذه القدرة والقوة هي أهم ما يحتاجه التكيّف مع سنن الطبيعة ، والتواؤم مع نواميسها ، لأن عنصر الزمن يدخل في صلب قوانين الحياة والوجود كلها ، بحيث لا يمكن الحصول على النتائج دون انتظار فترة من الوقت ، فالشجرة لا تثمر إلاّ بعد سنين من غرسها ، والسنابل لا تحصد إلا بعد مرور موسم على البذار ، والكائنات لا تَلِدُ إلا بعد فترة من الحمل ، والإنسان لا يتعلم إلا عقب سنوات طوال يقضيها في الدراسة ، والإنتاج لا يكون إلا بعد فترة من العمل ، والأهداف لا تتحقق إلا مضافة إلى زمن معين ، وهكذا ، وكل ذلك بطبيعة الحال يحتاج إلى الانتظار الهادئ المطمئن الذي يشكل أهم مقومات الصبر .
ومن طبائع الأشياء وقوانين الحياة كذلك ، أن الحصول على النتائج وإشباع الحاجـات الجسدية والنفسية والاستمرار والنمو والتقدم ، يحتاج إلى جهد ومثابرة ، ولأن المثابرة تستوجب المواظبة ودوام الجهد واستمراره فإنها تتطلب الصبر والاحتمال . أضف إلى ذلك أن الحياة بطبيعتها لا يمكن أن تخلو من الحرمان والمشاكل والمآسي ، فموت الأحبة والمرض والألم والحزن والإحباط وعدم تحقق الرغبات جزء من الحياة وليست استثناءً عليها. ولا يمكن التكيّف على نحو سليم مع هذه الآلام إلا من خلال الصبر . كما أن تحقيق الطموحات بعيدة المدى ، كثيراً ما يستوجب التضحية بمتع وملذات ورغبات قريبة ، يحتاج حَبْسُ النفس عنها الى جَلَدٍ واصطبار . 

 الصبر قيمة تندرج تحتها الكثير من الفضائل :
والصبر - كقيمة - واسع المفهوم شامل الدلالة ، بحيث تنطوي تحت مفهومه العديد من القيم والمعاني والفضائل الأخرى ، فالحِلْمُ مثلاً فضيلة أساسها الصبر على أذى الآخرين وجهلهم من باب سعة الصدر وكبر العقل . والهدوء قيمة أساسها الصبر على دواعي الانفعال والرعونة والعصبية ، وضبط النفس خُلق أصله صبرٌ على حرمانها مما تتطلبه . حتى الشجاعة ، التي يُفسَّرُ معناها على أنه الثبات والشدة عند البأس ، نجد أن في دلالتها ما يشير إلى نوع من الصبر ، ولذلك قيل (الشجاعة صبر ساعة) .
أما غياب الصبر فإنك تلحظه كامناً خلف كثير من السلوكات السلبية ، فالعصبيُّ الهائج كثير الصراخ يكون قليل الصبر عادة . والمنجرف خلف الملذات والمتع القريبة على حساب الأهداف البعيدة يفتقد إلى الصبر على الحرمان ، والشكّاء والبكّاء المتذمر عاجز عن الصبر على حاله ، وذاك الذي يفتقد القدرة على الاستمرار في أي عمل أو متابعة إي جهد إلى نهايته يعوزه الصبر على الجهد والمثابرة ... وهكذا .

الصبر .. تقبل وتحمل وتعايش وأمل :
ولو أننا حاولنا تحليل الصبر إلى عوامله الأولية ، سنجد أنه يتألف من مجموعة من العناصر ، أعتقد أن أولها هو التقبّل ، بمعنى قبول المرء بالحالة التي يجب الصبر عليها ، إذا كانت تلك الحالة واقعاً لا يمكن تغييره ، أو لا يجوز تغييره ، أو كان زوالها وتغيّرها يحتاج إلى فترة من الزمن تتطلب تحمّل الألم . ومَثَلُ ذلك من يصبر على إعاقة حركية لا علاج لها ، فيبدأ صبرهُ بإقراره بتلك الحالة كجزءٍ من واقعه ، وقبوله بها . أو كمن يصبر على معاملة شخص فظ غليظ القلب نكد عسير المعشر لا مجال إلا للتعامل معه ، أو يصبر على الحرمان من حاجة ، فيبدأ بتقبل موضوع ومحل الصبر أولاً .
والعنصر الثاني في الصبر هو التحمّل ، بمعنى القدرة على احتمال تلك المعاناة أو الألم أو الحرمان أو الأسى الذي يُسببه الموضوع الذي نصبر عليه . أما العنصر الثالث فهو التعايش والتكيف مع تلك الحالة التي تتطلب الصبر ، أي أن يحاول الإنسان أن يحيا حياة قريبة من الحياة الطبيعية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، رغم وجود تلك العلة أو المشكلة أو الألم أو الحرمان ، كهؤلاء الذين يعانون مرضاً عضالاً مثلاً ، لكنهم يصرّونَ على الاستمرار بممارســة نشاطاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم قدر الإمكان .
والعنصر الرابع ، هو ذاك الأمل الذي يمتزج عادة بالصبر ، ويترافق معه ، ويُعين على التقبّل والتحمّل والتكيف ، إنه إيمان وقناعة بأن الأمور مع الصبر سوف تصير إلى الأفضل .

فاصبِرْ صَبراً جَميلاً ...
كثيراً ما يقترن وصف الصبر على ألسنه الناس بلفظ (الجميل) ، وربما كان أصل ذلك أن آيات قرآنية متعددة نعتت الصبر في أفضل حالاته بأنه (صبر جميل) ، كما في الآية الكريمة (( فاصبر صبراً جميلاً .. )) وكذلك الأية الكريمة (( فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون )) . والجميل في اللغة هو الشيء الحَسَنُ ، سواء أكان معنوياً أم مادياً . وقد ذكرت التفاسير في معنى (الصبر الجميل) إنه صبر لا جزع فيه ، بمعنى أنه صبر لا يعتريه ضعف يقلل من كونه (صبراً) بكل ما يحمله اللفظ من دلالات ، وهو كذلك صبر لا شكوى فيه ولا تذمر ، بحيث يصبر المرء على المصيبة حتى لا يشعر الناس من حوله بأنه يعاني منها . إنه إذن نوع من التقبّل للحالة التي يتم الصبر عليها ، دون سخط ، وبتكيّف كامل، واحتمال داخلي ، يرافقه كتمان الألم والمعاناة .

 وبعد :
النظر إلى قيمة الصبر على أنها صفة وحالة ايجابية ، يقتضي فهمها من خلال كونها قدرة على التحمل ، وقوة كامنة في النفس تُمكِّنها من الثبات والصمود ، وهدفها التكيف السليم مع قوانين الحياة ومقتضياتها ، ولا تعني قيمة الصبر في أي حال إحجاماً عن الفعل الايجابي الهادف إلى تغيير الواقع ، وتبديل الحال ، والتطلُّع إلى الأفضل ، والسعي نحوه .

Kasht97@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com