الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

أبو درويش .. سبعون عاماً مع الساعات القديمة

صورة

وليد سليمان - على طول الزمن .. وساعات الحياة .. مازالت تصدر ضرباتها الرقيقة.. تك تك .. تك تك .. نعرفها نعم انها ساعة بحجم القلب تنظم الوقت وتفاصيل حياتنا .
الساعة000 ما ألطف صوتها الحاني وتكتكات دقاتها كنبض الإنسان ليلاً ونهاراً 00 الآن أنزل على درجات حجرية من شارع بسمان نحو الممر المؤدي قديما لمطعم دار السلام و الذي يوجد به المحل الشهير(محل ابو درويش ) لتصليح الساعات من كل الأنواع وبالذات القديمة والضخمة «الجراند فاذر» ... ماذا أتذكر ؟! أغان عديدة فيها التغني بالساعة الزمنية والآلية : (ياساعة بالوقت إجري خلي الحبيب ييجي بدري) و(ساعة بقرب الحبيب أحلى مكان في الحياة) و(وساعة ما بشوفك جنبي ما قدرش اداري وأخبي) وأم كلثوم تقول ولا اتذكر ماذا تقول بالضبط !! لكن أجمل أغنية قديمة كانت» قديش الساعة ياست قوليلي من فضلك « ... الخ , وفجأة أصل إلى محل تصليح الساعات00 وأبو درويش رحمه الله ظل يمارس مهنة بيع وتصليح الساعات لمدة (70) سنة ... وعند باب المحل كان أصغر أبنائه مازن العوالي في إستقبال أبواب الرأي مرحباً حيث أوضح انه إعلامي سابق .. وقد عمل لفترة طويلة في إدارة العلاقات العامة والتوجيه المعنوي للأمن العام حتى وصل إلى رتبة رائد .. لكنه عندما تقاعد أحب أن يحافظ على هذه المهنة العريقة وليظل اسم والده (أبو درويش) حياً في قلوب الناس والزبائن الذين عرفوه في عمان قديماً منذ الستينات .

مازن العوالي 
يقول مصلح الساعات القديمة والحديثة مازن العوالي : والدي مصطفى أبو درويش من مواليد بيروت عام 1910 ذهب لتعلم تصليح الساعات في حيفا ثم جاء أبي الى العقبة في الأربعينات ثم إلى عمان في الستينات .. وكنت وانا عمري عشر سنوات اذهب لمحل والدي هذا وأراقب أبي كيف يصلح الساعات المتنوعة من يد وحائط وطاوله ... الخ .
وكان والدي يعمل ليلاً نهاراً حتى يرضي الزبائن فالذي يقول له ارجع بعد يومين وستكون ساعتك صالحة كان يلتزم بذلك فيأخذ إلى المنزل بعض الساعات لإصلاحها لأنه لم يستطع إصلاحها في المحل !!! وبسبب إرهاقه الشديد كنت متخصصاً بتكبيس أصابع قدميه أي عمل مساج مع الماء الساخن وكنت مستمتعاً بذلك لأنه أبي الذي أحبه كثيراً وأقدره جداً وسأظل محافظاَ على ذكراه العطرة .
وعند سؤالنا عما كان والده يصلح من انواع الساعات ؟!أجاب مازن : كان يصلح الساعات اليدوية , والمنبهات من صنع ألماني , وساعات الحائط الزمبركية وساعات الاتوماتيك مثل السايكو وستيتزن وأورينت , والساعات الجدارية القديمة والجراند فاذر (أي الساعات الطويلة جداً التي هي أشبه بالخزانة التي توضع على الأرض) وساعات البج بن الانجليزية التي تعمل على الخيطان أي الحبال الرفيعة القوية والتي بها عدة نغمات موسيقية ترن بعد مرور كل ساعة زمنية .
وأيام زمان لم يكن توجد قطع غيار متوفرة دائماً !! لذا كان والدي أبو درويش يقوم بنفسه بخراطة قطع الساعات بمخرطة صغيرة لديه في المحل ليصنع مثلاً دولايب وشواكيش وقالنس للساعات المعطلة حتى تصلح وترجع تعمل وتتحرك .

وفد من اوروبا 
وفي أحد الأيام قديماً جاء وفد اوروبي إلى عمان حيث زاروا والدي في محله هذا وقالوا له : لقد سمعنا انك تصلح ساعات الفيرلي الألمانية وهي ساعات المنبه الصغيرة والتي تعمل بواسطة تعبئة الزمبرك , وعرضوا عليه عدم تصليح هذه الساعات ولماذا يتعب بخرط قطع الغيار .. على ان يوردوا له ساعات جديدة لبيعها للزبائن بدل كل هذا التعب !! لكن والدي رفض بشدة هذا العرض بأن يصبح وكيلاً لهذه الساعات وقال لهم ان المواطن لدينا وضعه المالي بسيط ولا يستطيع بدخله المتواضع ان يظل يشتري الساعات الجديدة .
فما كان من هذا الوفد عندما رجعوا إلى بلادهم واعجاباً باخلاص والدي لمهنته وللناس إلا أن ارسلوا له مجاناً طرداً كبيراً مليئاً بالآلاف قطع الغيار للساعات .

زبائن عرب 
وعن زبائن هذا المحل قديماً مثلاً قال مازن: أنهم على مستوى الشرق الأوسط منهم الزبائن من كل المدن الاردنية ومناطقها, هناك من يأتي من دول مجاورة مثل السعوديه وفلسطين لتصليح ساعاتهم هنا 0 وذات مرة جاء رجل عراقي من ألمانيا ليصلح ساعة تحف أرضية وذلك بسبب أن والدي ربما كان الوحيد الذي يقوم باصلاح هذه النوعية من الساعات الكبيرة والقديمة والتي تسمى بساعات التحف آنذاك 0

علم رجلاً ضريراً 
وعن المرحوم أبي درويش فقد قام ذات مرة بعمل إنساني ومهني صعب جداً00 لكنه نجح بذلك فقد قام بتعليم تصليح الساعات لرجل كفيف البصر!!!!اسمه أبو حسن، فقد احب وأصر والدي أن يعلم هذا الرجل تصليح الساعات، وعلّمه في المحل بمدة قياسية وبطريقة اللمس كيف يتعرف على قطع الساعة، وكيف يصلحها حتى أتقن هذا الرجل حقاً تصليح الساعات حتى يتمكن من الإعتماد على نفسه، ويكسب قوت نفسه وعائلته بعرق جبينه، بعيداً عن عطف الناس من هنا وهناك .

أبوك أصلحها !!!
ويوضح مازن بقوله : أن معظم زبائن هذا المحل هم ممن في أعمار تتراوح ما بين 60-80 سنة , والقليل منهم ممن تتراوح أعمارهم بعمر الشباب .
ومن المدهش أن العديد من الزبائن ممن يأتون لهذا المكان يسألون عن أبي درويش فأقول لهم : يرحمه الله !!! فيجهشون بالبكاء , رغم أنه توفي منذ (7) سنوات لقد كان متواضعاً محباً للناس مخلصاً في عمله وقنوعاً بالأجرة البسيطة التي كان يأخذها عن تصليحه للساعة .. ومرات عديدة لا يأخذ أجرته إذا كان الخراب بسيطاً 00والعديد من كبار السن يأتون ومعهم ساعة قديمة تعبانة جداً ويأمروني أمراً بأصلاحها قائلين لي إن( أبوك) أصلحها قديما !!! وأنت عليك إصلاحها مثل والدك 0
وهناك لا أستطيع رد هذا الطلب أبداً لذكرى والدي رغم أن تصليحها سيأخذ مني وقتاً طويلاً0
ويرجع مازن الابن الاصغرللماضي الأليف ليقول : هناك أناس وزبائن كثر عرفوا والدي عبر نصف قرن من الزمان أحبوه وأحبهم حتى أصبحت بينهم علاقة إنسانية حميمة أكثر منها مصلحة تجارية ومادية 00 فقد كان الناس قديما يتعاملون وبشكل كبير بأجمل قيم الصدق والإخلاص والمحبة الصافية من أية مصلحة ... وياليت تعود تلك الايام الحلوة مثلما كانت منذ عقود وعقود بين الناس 00 ؟! .

الساعات والذكريات
 زبائن هذا المحل العريق بتصليح الساعات هم من كل أطياف المجتمع الاردني والعماني من أمراء وأميرات وأثرياء وفقراء وبسطاء وموظفين ومحامين ومهندسين ومحامين .. أنه مكان لكان الناس حيث أن الساعة تجمع الكل على المحبة والبساطة والتواضع .
وكان لأبواب الرأي هذه اللقاءات السريعة مع بعض زبائن هذا المحل مثل الطبيب صدقي التركي الذي أوضح بقوله : كان لديّ ساعة قديمة هي هدية عزيزة من والدي ... ولم أكن مهتماً بها .. ولكن عندما توفي الوالد أردت تصليحها00 لأنني بدأت أعرف قيمتها الروحية ولأنها تذكرني بوالدي العزيز ... وكان ان قام بتصليحها لي فعلاً الساعاتي القدير مازن ابن ابي درويش .
أما المحامي مصطفى أبو صالحة فقد أراد تصليح ساعة عزيزة على نفسه لأن لها ذكريات خاصة 00 و كان ثمن هذه الساعة (10) دنانيرقديما!! لكنه الآن وبعد أن أصلحها في هذا المحل فانه يؤكد أنه لا يستطيع الإستغناء عنها حتى لو دفعوا له ثمناً لها عشرة آلاف دينار !!0 
لذلك نكتشف أن للساعة واقتنائها ناحيه نفسية وذكريات ومعان هامة في عقول وحياة الناس , حيث ربما تكون الساعة هذه مهما كان نوعها أو ثمنها هدية من شخص عزيز غاب , أو انها لشخص عزيز كانت ملكه وتحولت تلقائياً للابن أو للبنت مثلاً أو الزوج ... أو أن الساعة كانت 
جزءا من مهر عروس قدمها العريس ذات زمن جميل وهانئ «»ويا ساعه في الوقت إجري خلّي الحبيب ييجي بدري»» 00!! 0

مهنة عائلية 
أبناء المرحوم (أبو درويش) الذكور هم تسعة جميعهم أحبوا مهنة أبيهم وأصبحوا مصلحي ساعات00حيث ينتشرون في عدة أماكن في عمان والاردن ولبنان .. حتى ان المخرج التلفزيوني محمد العوالي هو الآخر لديه شغف بتصليح الساعات في فترات فراغه ... فقد أحبت هذه العائله مهنه وفن تصليح الساعات .. وهي بالتالي أعطتهم محبة الناس أينما كانوا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com