الخميس، 29 نوفمبر 2012

الشَّفافيّةُ ... أَعماقُها وآفاقُها

صورة

تغيّيبُ الشفافية  للروائي «حنا مينا» أطال الله في عمره ، عبارات بليغة وجميلة ، اُحسُّ أنها تعبِّر بصورة أدبيّة موحية عن أبعاد الشفافية في حضورها وغيابها ، حيث يقول : « حين تصير الأشياء في الضوء ، تستنير بأشعة الشمس ، تتطهر ، أما عندما تظلّ في العتمة ، فإنها تتعفّن، وتنبعث منها رائحة كريهة .. « .
وتلك حقيقة ، فتغيّيبُ الشفافية بأي حجّة ، وعلى أي نحو ، لا بد أن تكمُنَ خلفه سوء نيّة مبيّتة ، مهما كانت المبررات التي تزيّن السرية والتكتّم والتعتيم .

إبراهيم كشت

صدّقوني أن الشفافية ثقافة ، وقيمة أخلاقية ، ونمط تفكير ، ومنهج سلوك ، قبل أن تكون تشريعاً ، أو متطلباً تفرضه جهات رقابية ، أو تشجّعُ عليه هيئات ومنظمات دولية ، أو تقيس مدى حضوره وغيابه مراكز أبحاث ودراسات ، وقبل أن تكون أيضاً شعاراً تتغنى به الشركات والمؤسسات والأحزاب والحكومات ، وتزين به بعض وسائل الاعلام خطابها ، ومقالاتها وأخبارها وعناوينها الرئيسية ، لإدراكها بأن الشفافية (كمصطلح) لفظ برّاق ، يحظى بالاهتمام العام والخاص ، المحلي والدولي ، ويمكن إدعاؤه والتظاهر به ، ويمكن استخدامه كوسيلة للترويج ، كما يمكن استعماله (أي مصطلح الشفافية) في سبيل مزيد من التضليل ، وفي سبيل مزيد من (عدم الشفافية) أيضاً ..! 
نعم ، الشفافية قيمة وثقافة ومنهج تفكير وسلوك قبل أي شيء آخر ، وهي في جوهرها نوع من الصدقية والتحديد والوضوح والصراحة الايجابية ، وهي – أعني الشفافية – تعبّر في مفهومها الحقيقي ، عن مبدأ أخلاقي سامٍ ، معروف في تراثنا الديني ، يقضي بأن {على المرء ألاّ يقوم بفعل في السرِّ ، يستحي (أو يخشى) أن يقوم به في العلن } ، وحين تأخذ المؤسسات على اختلافها بهذا المبدأ ، فلن تظلّ حريصةً أبداً على البقاء في نطاق السريّة والتعتيم والتّعمية ، ولن تبالي بالخروج الى نطاق العلن والوضوح والإفصاح و(الشفافية) .

 مفهوم الشفافية ... بين الفيزياء والحياة 
يُعبر لفظ (الشفافية) في علم الفيزياء عن تلك (الخاصية) التي تسمح للأشعة بالمرور من خلال مادة معينة ، فإذا كان الزجاج شفافاً مثلاً ، فإن مرور الأشعة من خلاله تسمح برؤية ما خلفه بوضوح . لكن إذا علا الغبارُ والترابُ الزجاجَ ، أو جاء من تعمّدَ طلاءه باللون الأسود ، فلن يسمح هذا الوضع بمرور أشعة الشمس من خلال ذلك الزجاج ، وبالتالي سوف تحتجب رؤية ما خلفه حتى في وضح النهار .
ويبدو أن الحال لا تختلف – من حيث المبدأ - في الفيزياء عنها في مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة والمال والأعمال ، فالشفافية صفة للنشاطات حين يتاح للناس الاطلاع على ما يتعلق بها من معلومات وتفاصيل ، من خلال الوضوح ، والتحديد ، والإفصاح ، والانفتاح على الجمهور والاطلاع على (التغذية الراجعة) منهم . دون أن يحول بينهم وبين ذلك زجاج معفر بالتراب ، أو ملطّخ بالطين ، أو مطليّ بالسواد ، يتخذ شكل السريّة والتكتم والتعتيم والغموض الذي يحجب الرؤية ، أو يشوّهها ، أو يتسبب بخداعٍ بصريّ يصوّر السراب ماءً .

 حين تغيب الشفافية ... 
للروائي (حنا مينا) أطال الله في عمره ، عبارات بليغة وجميلة ، اُحسُّ أنها تعبِّر بصورة أدبيّة موحية عن أبعاد الشفافية في حضورها وغيابها ، حيث يقول : { حين تصير الأشياء في الضوء ، تستنير بأشعة الشمس ، تتطهر ، أما عندما تظلّ في العتمة ، فإنها تتعفّن، وتنبعث منها رائحة كريهة .. } .
وتلك حقيقة ، فتغيّيبُ الشفافية بأي حجّة ، وعلى أي نحو ، لا بد أن تكمُنَ خلفه سوء نيّة مبيّتة ، مهما كانت المبررات التي تزيّن السرية والتكتّم والتعتيم . وتغييب الشفافية ينمُّ دائماً عن توجّه الإرادة الخفية إلى الخداع أو الغش أو التضليل ، أو الفساد باشكاله القبيحة كافّة ، أو يشي - على الأقل - بوجود أخطاء ومخالفات وزلاّت يراد التغطية عليها .
والفساد على نحو خاص ، لا تتفتقُ بذوره ، ولا تمتدُّ جذوره ، ولا تتشابك غصونه ، إلا في غياب الشفافية ، فحين تغيب الأرقام الحقيقية ، ولا تتضح مداخلها ومخارجها الفعلية ، أو يغيب الإفصاح عن الوقائع كما هي ، أو تكون الاجراءات والقرارات غير معلنة ، أو تكون الأهداف والسياسات غير محددة أو غير واضحة ، أو مكتومة أو متوارية ، أو إذا كان الاطلاع على كل هذه الجوانب أو أي منها غير متاح للكافة ، أي إذا غابت الشفافية ، فلا بد أن يَسْمَنَ الفسادُ ، وينمو لحمُهُ ، ويربو شحمه ، وتطول أنيابه ، وتشتدّ قرونه . إنها حقيقة تدل عليها تجارب الدول والمجتمعات والمؤسسات والهيئات باستمرار ، وتقول هذه الحقيقة بإيجاز وبلاغة إنه : إذا غابت الشفافية حضر الفساد لا محالة .

الشفافية في حضورها :
ترتبط الشفافية بقيم إنسانية ايجابية متعددة كالصدق والنزاهة والوضوح والثقة والصراحة واحترام القانون ، بل وترتبط كذلك بحسن النية . واضافة الى ذلك كلّه ، فإن الشفافية في حضورها وتطبيقها وتفعيلها تقود الى ايجابيات متعددة ، فهي تحفّز على مشاركة الناس من خلال الاطلاع على المعلومات الوافرة الواضحة الصحيحة المتاحة لهم ، والتي تمكنهم من متابعة مجريات الأمور ، ومن إبداء آرائهم وانتقاداتهم ، وتمكنهم كذلك من مراقبة صحة المسار وصحة القرارات ، مثلما تتيح محاسبة المخطىء ، وإعادة النظر في الخطط والسياسات والاجراءات والقرارات لتصويبها ، على أساس من نقد المواطنين والمهتمين والمعنيين وتقييمهم واقتراحهم للبدائل .

قمّة الشفافية هي الوضوح التام :
الوضوح عنصر أساسي يدخل في صلب ماهية الشفافية ، فلا تقوم الشفافية بدونه مطلقاً، وعندما يتحقق الوضوح التام في الإفصاح وتقديم المعلومات وعرضها ، تبلغ الشفافية قمتها . والواضح – بطبيعة الحال - هو ما يكون ظاهراً لا خفياً ، معلناً لا سريّاً ، بيّناً لا متوارياً ولا محتجباً ، ولا مختبئاً خلف ستار ، إنه كما الشمس الساطعة في كبد السماء الصافية عند الظهيرة في يوم صيفي ، يقدّم نفسه بنفسه ، فهو ليس مبهماً ولا غامضاً ولا ملتبساً ، ولا يثير الحيرة والشك والتساؤل ، ولا يستعصي على الفهم . 
ومن الجوانب النفسية المهمة المتعلقة بموضوع الوضوح ، والمتعلقة بالتالي بالشفافية، أن الإنسان بطبيعته لا يطيق الغموض ولا يحتمله ، فإذا وجد نفسه أمام ظاهرة أو حدث أو واقعة لم يستطع فهمها لنقص المعلومات المتعلقة بها ، راح يستكمل الصورة من خياله ، ويقدم تفسيراً من عند نفسه، ثم يُصدِّقهُ ، ويكون بذلك قد تغلَّبَ على الغموض ، ووصل الى ما يحسبه الوضوح ..! ولعل هذا ما يعطينا تفسيراً لما يسود لدى المجتمعات التي تغيب عنها المعلومة المكتملة والدقيقة نتيجة غياب الشفافية، حيث يلجأ أفراد تلك المجتمعات الى نشر الإشاعة وتصديقها سعياً منهم نحو إزالة الغموض الذي يحيط بالأحداث والوقائع من حولهم ، أو يروحون يفسرون تلك الأحداث من خلال نظرية المؤامرة كطريقة تريحهم أيضاً من الغموض وتشعرها – ولو كذباً– بالوضوح .

استدراك :
وعودة الى ما كنّا بدأنا به هذه المقالة ، من حيث القول بأن الشفافية ثقافة وقيمة أخلاقية ومنهج تفكير وممارسة قبل أي شيء آخر ، فربما يجدر أن أستدرك وأؤكد على أن هذا القول لا يقلل مطلقاً من أهمية التشريعات والتعليمات والأحكام والسياسات وأدلة العمل والنماذج ومواثيق السلوك المكتوبة التي تفرض الشفافية أو تشجّعها ، وتبين تفاصيل جوانبها التي ينبغي التقيد بها . فكل ذلك يساعد على إرساء قواعد الشفافية ، ويعمل على تغيير الثقافات السلبية التي تقاومها ، وإن كان تغيير مثل هذه الثقافات يحتاج الى وقت قد يطول ، ويتطلب مساهمة التربية والتعليم والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني على اختلافها ، في بناء اتجاهات إيجابية نحو الشفافية ، كقيمة أخلاقية وواجب إنساني ووطني ، مع محاولة ترسيخها كثقافة تقوم على أن الإفصاح والوضوح أصل ، والسرية والتكتّم استثناء .
Kasht97@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com