الخميس، 11 أبريل 2013

حينَ يكونُ مَزاجُ المسؤولِ مُتعكّراً ..!


صورة


إبراهيم كشت - كان يحتضن ملفّاتٍ وأوراقاً، تُسابِقُ قدمه اليمنى قدمه اليسرى، وهو يحثّ الخطى نحو غرفة المدير، وحين بلغ مكتب السّكرتيرة، وضع الملفّات جانباً، ثمّ أصلح من وضع ربطة عنقه المتهدّلة، وسرّح الشعرات القليلة المتبقيّة في رأسه، بأن جعل أصابع كفّه تتخلّلها، وقال بلهجة الأرعن المتعجّل:
-    أريد مقابلة سيادة المدير في أمر مُلحّ .
أجابت السكرتيرة برقّتها المعهودة، وبنبرة لا تخلو من حسرة:
-    متأسّفة، مزاج المدير متعكّر.
فقال الموظّف معتذراً:
-    متعكّر ؟  آه، أنا المتأسّف إذن.
ابتسمت السكرتيرة، ابتسامة امتزجت فيها الدّعابة ببعض المكر، قائلة:
-    على أيّ حالٍ، لا مانع من مقابلة سيادته، إن كنت مُصرّاً.
ولم يلتفت إليها، وهو يتّجه صوب الباب قائلاً كأنّه يتمتم:
-    وهل أنسّ يوم كان مزاجه ملوّثاً، فقذف الملفّ في وجهي وهدّدني بالفصل من العمل.  
وبعد لحظات حضر المساعد، واضعاً على وجهه قناعاً من الحزم المُتكلّف، تجاوز السكرتيرة ولم يُلق لوجودها بالاً، ثم نظر من باب الغرفة إلى وجه المدير، فرآه مكفهراًّ عبوساً، كالسّماء المُتجهّمة المنذرة بالرّعد والبرق القريبيْن، وعندها قال بأسلوب من يدّعي الحكمة وتقدير خطورة المواقف:
-    مزاجه غير رائق، هذا واضح، سأعود مرّة أخرى.
********
وما هي إلاّ برهة، حتّى دخل أحد الموظّفين يحمل بيده نموذج إجازة، ويدندن بأغنية، تبدو ذات لحن مرح طلق، ويهزّ رأسه طرباً، قال للسكرتيرة:
-    سأطلب إجازة.
وعاد يهمس بالغناء ويهزّ رأسه، فأجابته ضاحكة، كأنّما أطربها غناؤه الهامس:
-    إحذر، فمزاج سيادته مشحون بتيّار كهربائيّ سالب، ولن ويوافق لك أبداً.
فتوقّف عن الغناء، وتوقّف عن هزّ رأسه، وخرج.
وبعد دقائق، دخل رجل أنيق، يحمل بيده حقيبة سوداء كتلك الّتي يحملها رجال الأعمال عادةّ.  ويلبس ( جاكيتاً ) ذا لون فسفوريّ لمّاع، لو سقطت عليه أشعّة في الظّلمة لانعكست تألّقاً.  ويشدّ إلى رقبته ربطة عنق لها ألوان ريش الطواويس، وفي جيب ( الجاكيت ) أشتُـقّ لونه من لون الرّبطة.  وفي قدمه حذاء يلمع حتى يكاد يتوهّج. ابتسم، حياّ، ثم قال بأدب جم:
-    أرغب بلقاء السيّد المدير.
ردّت السكرتيرة ابتسامته بأحسن منها، وصمتت لحظة تتفكّر: « ماذا   سأجيبه ؟  لو أني سمحت له بمقابلة المدير، لثار سيادته بركاناً، ولتحوّل إلى ثور أهوج، يرى كلّ الألوان حمراء، فإذا كان الرّجل قد جاء بصفقة في صالح هذه المؤسسة، أفسدها، وبرّر قراره بإفسادها بعشرات الحجج «.
ثمّ تداركت صمتها، فنظرت إلى الرّجل، وقالت و ملامحها تقطر لطفاً:
-    متأسّفة، المدير في اجتماع، هل أقدّم لك خدمة ؟
قال مستغرباً:
-    لكنّه سبق وأن طلب منّي أن آتيه في أيّ وقت وفي أيّ ظرف.
ثم قدّم لها بطاقة تعريف صغيرة تحمل اسمه وطبيعة عمله، فازدادت حيرتها حين علمت بأهميّة الرّجل، ومدى حاجة المؤسّسة إليه، لكنّها قالت معتذرة :
-    أكرّر الأسف، ربّما تتاح لك فرصة أخرى قريبة للحضور.
فهزّ رأسه بما يفهم منه أنّه لم يقتنع، ثم شكرها، وخرج.
********
ولم تمض سوى لحظات، حتّى دخل رجل أشعث أغبر، منكوش الشّعر، رثّ الثّياب، تفوح من تحت إبطه ومن مسامات جسده رائحة عرق معتّق متخمّر، قال كالملهوف دون أن يسلّم:
-    لي موعد مع سيادة المدير، موعد احتجزته منذ أسبوع.
ردّت السكرتيرة والرّائحة المنبعثة من الرّجل تملأ أنفها:
-    لكنّه مشغول جداَّ، يمكنك تحديد موعد آخر، والاتّصال قبل الحضور.
فقال الرّجل بنبرة يقينيّة، والرذاذ يتطاير من فمه:
-    ليس مشغولاً، لكنّه يقابل النّاس أو يصدّهم تبعاً لتقلّبات مزاجه، بل يتّخذ قرارته تبعاً لهذا المزاج، وما أنا إلاّ ضحية لقرار اتّخذه في ظل مزاجه السيّء العكر، مثل مديرك يسمى في اللغة الفصيحة ( رجل مزّاج ).  
ثم مسّح الزّبد من زاوية فمه، وقال جازماً:
-    لا أبرح هذا المكان حتّى أقابله.
وجلس على كرسيّ في أقصى مكتب السكرتيرة دون أن يستأذن، متأفّفاً، زافراً، مغمغِماً بكلمات تشي بضيق صدره ونفاد صبره.
في هذه اللّحظة دخل موظّف صغير، ترتسم على سيمائه ألوان طريفة من معاني اللاّمبالاة، وقال ضاحكاً: -    علمتُ أن سيادته قد طلب أن أراجعه « شخصيّا « في مكتبه، لتأنيبي على شكاوى بلغته من رؤسائي.  قالت السكرتيرة بصوت خافت وهي تتأمّل ملامح لا مبالاته:
-    متأسّفة، لن تقابله الآن، مزاجه متعكّر.
فردّ بنبرة جريئة اتّخذت صورة المُزاح:
-    متعكّر أم ملوّث ؟  راكد أم مضطّرب ؟  صاف أم فيه شوائب ؟  لماذا تشبّهون مزاج المديرين بمياه المستنقعات ؟  يبدو أن مسألة المزاج هذه من الخصائص الّتي تبلغ بهم أعلى المراتب لأنها تضفي عليهم هالةّ لا أفهمها.  على أيّ حال، حين أكبر وأصبح مديراً سأغدوا أخا مزاج مثلهم، أعني أني سأصبح ( مودي ) ، أو باللغة الفصيحة القديمة سأصبح « رجُلاً مزّاجاً «  .    
فغالبتْ السكرتيرة ضحكتها، واكتفت بابتسامة عريضة، حتى افترّ ثغرها عن درٍّ مكنون، وتلألأت في وجهها ملامح أنوثة كثيراً ما نسيها الزّملاء، فتشجّع الموظّف الشاب وقال – وقد اختفت ملامح اللاّمبالاة من وجهه - :
-    أتدرين يا آنسة، إنّي لأستعجب ممّا يسود مؤسّسات العمل في مجتمعنا، فحين يُقبل الموظف أو العميل إلى مكتب المسؤول، وقبل أن يدخل يسأل بجدّية واهتمام :   « كيف مزاجه « ؟ كأنّنا نفترض مسبقاً بأنّ هذا المزاج هو الذي يوحي للمسؤول بقراراته وردود أفعاله.  مع أنّ المنطق يقول أن المدير ينبغي أن يكون ناضجاً، يتمتع بتوازن عاطفيّ مقبول، ولا تصدر تصرّفاته عن مزاجه وإنّما عن عقله، وفي ضوء المعلومات الّتي بين يديّه.  كما أنّ مزاجه ينبغي أن يتّسم باستقرار طبيعيّ، ولا يتبدّل بحدّة وفقاً لتواتر الأحداث واختلاف الأوقات.
وحين همّ بالخروج، أومأت له السكرتيرة بطرف عينها نحو الرّجل الثّقيل الجالس بأقصى زاوية المكتب، وقالت بصوت مرتفع:
-    هلاّ اصطحبت معك الأخ المحترم، لتقوم بواجب ضيافته حتى تتاح لسيادة المدير مقابلته ؟  
فضحك وهو يقول:
-    هذا واجب.
وقبل أن يخرج بصحبة الرّجل الأشعث ، التفت نحو السكرتيرة، وقال هامساً:
-    أنت درّة في وعاء ممتهن.
فابتسمت سريرتها، لكنّها اصطنعت العبوس، وأشاحت بوجهها عنه.
وما أن خرجا، حتّى أخلدت لأفكارها، وقد وقعت كلمات الموّظف الشاب في نفسها فراحت تتفكر : « ماذا لو كان زوج المستقبل ذا مزاج متموّج متقلّب كمديري في العمل ؟ يا لله، لا بدّ أن مؤسّسة الأسرة حينئذ سوف تتقلقل، لا والله، بل سوف تتهلهل، ثم تتزلزل، ثم تتداعى أركانها وتتقوّض، حتى تنهار على أعضائها.  اللهم إنّ ( العنوسة ) خير من الزّواج من صاحب طبع كطبع هذا الجالس في       الداخل . . . لا شكّ أنّ ما يعانيه مرض يحتاج إلى علاج، نعم لقد قرأت ذات مرّة – لا أدري أين ومتى – أنّ التقلّب الحادّ في المزاج ينجم عن « لخبطة « في إفراز الهرمونات، وأنّ . . . .  
ومازالت تحدّث نفسها، ونفسها تحدّثها، حتّى دخل أحد عملاء المؤسّسة المعروفين بوقارهم وجديّتهم ونجاح أعمالهم، وحين حياّ بادرته إلى القول بخجل  باد:
-    أنت من أسرة هذه المؤسّسة، ولن أكتمك سراّ، مزاج المدير الآن لن يتيح لك الفرصة للقائه.
-    لكنّني على موعد معه.
-    أعلم، إنّي أعتذر مرّة أخرى.
-    لقد تكرّر هذا الأمر مرّات بسبب مزاجه المتقلّب.
-    أكرّر الأٍسف.
-    لكنّ وقتي ثمين.
-    أقترح عليك أن تتّصل هاتفيّا قبل أن تحضر.
-    أخشى أن يكون مزاجه صافياً حين أتّصل بكم، وخلال مسافة الطّريق التي تفصلنا، ينقلب ذلك المزاج ويتشوّه.
-    هذا ممكن للأسف.
-    هل تسمحين لي بكتابة ملاحظة مختصرة لسيادته إذاّ ؟
-    تفضّل . . .
فكتب العميل في قصاصة صغيرة : « بئست مؤسسة تُدار بمزاج متقلّب، ولا تدار بعقل ناضج، وأيّ مزاج ؟ مزاج رجل يفتقد التّوازن الإنفعالي، فكلّ لحظة هو في شأن.  حين تفصلون بين متطلبات مزاجكم الشّخصي ومتطلّبات العمل، وحين تتذكّرون أن التّوازن النفسي من شروط القيادة في المؤسّسات، وحين تتذكّرون أنّ  ( الرجل المودي ) لا يصلح مسؤولاً ، حينئذ سأرجع إليكم مرّة أخرى « .
ودفع بالقصاصة إلى السكرتيرة، ثم شكرها، وانطلق.
بعد حين، سمعت صوت المدير يستدعيها، فارتجفت، لكنّ الرّجل ضحك طويلاً، وقال:
-    مالك ..؟ تعالي . .  
أدركت أنّ مزاجه دخل الآن في حالة الصّفاء – لا تدري لأيّ مبرر – وأنّه سوف يستقبل المراجعين، ويتفهّم كل وجهات النّظر.
فدخلت إليه، لكنّها لم تطلعه على القصاصة التي كتبها العميل، خشية أن يعود إلى مزاجه العكر، أو أن يعود المزاج العكر إليه.

Kasht97@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com