الخميس، 25 أبريل 2013

مَنْ هو أفضلُ مَنْ يديرُ الأَزماتِ ..؟!

صورة

إبراهيم كشت - صرخ أحد الموظّفين بصوت مرتفع جَزِع . . حريق . . حريق، فترامي صوته إلى سمع زملائه، ودوّى في آذانهم كقعقعة الرّعد، فهبّوا متدافعين، وقد اعترتهم قشعريرة  ، ثمّ توقّفوا في الرّدهة مشدوهين، مردّدين مثله : « حريق . . حريق « .
كان ثمّة دخان أسود كثيف تصاعد من المستودع، ظلّ يمتدّ منتشراً حتّى بلغ أنوف الذّاهلين الواقفين، وتزايد حتى غشيَ أبصارهم، فلم تكن تظهر لهم من خلال السّحب السّوداء الهاجمة سوى ألسنة اللّهب تتعالى ، وكان ثمّة للنّار، وهي تلتهم الأشياء، خشخة رهيبة زادتهم خوفاً ، وجعلتهم متسمّرين في أماكنهم، وقد خدّرت الرّهبة وعيهم وإرادتهم.
بلغ نبأ النّار المشتعلة سمع المدير الأكبر للمؤسّسة، فوثب من خلف مكتبه وثباً، وركض نحو موقع الحريق، ثمّ جذب كرسيّا فوقف فوقه ثابت الجأش متين الأعصاب ، وصرخ بصوت متماسك حازم : « اسمعوني، لا تقفوا هكذا « فالتفت إليه الجميع، كأنّما استردّهم من ذهولهم، وكأنما كانوا يتطلّعون فعلاً إلى من يوجّههم، فوجدوا فيه ضالّتهم.
أشار لأحد الواقفين قائلاً : « إقطع التيّار الكهربائي من هناك « وأشار لآخر وهو يقول : « افتح الشبابيك البعيدة « ليخفّ تأثير الدّخان « ونظر إلى اثنين آخريْن قائلاً : « اسحبا خرطوم الماء وأسرعا برشّ الماء على النّار « ثم أمر الآخرين بالتّعجيل في إحضار ما أمكن من جرادل الماء ودلقها على الحريق .  ولم ينسَ أن يكلّف أحد الواقفين إلى جانبه بسرعة الاتّصال برجال الإطفاء.
انطلق الجميع ينفّذون أوامره بانصياع تام، فكأنّه كان يوحي إليهم وهم في حالة نوم مغناطيسيّ.  ثمّ دخل بنفسه بينهم يوجّه ويساعد، حتّى انقشعت الغيوم الدّخانيّة وسكتت خشخة النيران، وخمد تلظّيها ، فغمرت السكينة والطمأنينة النفوس ، ولم يقلّل منهما مشهد ما خلّفته النيران في المستودع من رماد متراكم.
 ***
عاد المدير الأكبر إلى مكتبه، مزهوّاً بإنجازه وراح يقول في نفسه : « كنتُ أصلحُ فعلاً قائداً لفريق إطفاءٍ من النّخب الأوّل، لولاي لاحترقت المؤسّسة بما فيها ومن فيها، جميعهم يعرفون قيمتي عندما تدلّهمُّ الخطوب، النار نفسها ستشهد أنّي أخمدتها قبل وصول رجال الإطفاء « .
ثم ألقى بنفسه على الكرسيّ مسترخياً، واستطردت ذاته تقول لذاته : « كلّ من رأى ألسنة النيران تتعالى ، واستنشق رائحة الدّخان حتى امتلأ بالسّخام أنفه، وسمع أنين الورق والخشب المحترق، سيدرك أنّها أزمة في قمّة حدّتها، وسيلحظ أنّ كل العناصر الملعونة الّتي يمكن أن تلتقي في الأزمة قد كانت ممتزجة في نفس اللّحظة، كأنّها متواطئة فيما بينها : حدث طارئ مفاجئ، واختلال في التّوازن العام، وتهديد يتفاقم بتتابع، وصعوبة في السّيطرة، وضآلة في المعلومات، وندرة في عدد البدائل، وضغط في الوقت، وحاجة لقرار سريع، وتقطّع في خطوط الاتّصال الرّسمية، وجو من الفزع والتّشتت والتّوتّر يلُفّ ذلك كلّه «.
ثم انتفض فجأة، كأنّما أفاق من نشوة انتصاره على الحريق، وتذكّر أن الأمر لم ينتهِ بعد، فأمسك بالقلم وكتب قراره بتشكيل لجنة برئاسته لتقصّي أسباب الحريق، ولجنة أخرى برئاسته أيضاً، لتحديد المواد والأشياء التّالفة وتعويضها.
ومضت أيّام وصاحبنا يعمل مع لجنة تحديد أسباب الحريق، كان يحقّق مع ذوي العلاقة بنفسه، ويزور المواقع المتضرّرة، ويبحث وينقّب ويتحرّى، ويضع الفروض ثمّ يحاول إثباتها أو إسقاطها.  حتى خرج بالنّتيجة النّهائية بكثير من الإطمئنان، وبالاستناد إلى الأدلّة الجازمة : « سبب الحريق تماسٌّ كهربائيّ، لا يد فيه إلاّ للقدر «. وما أن خرج بهذه النّتيجة حتّى قال في نفسه بفخر « لو كنت أعمل محقّقاً في الحوادث الغامضة، لكنت أَنجحَ المحقّقين « .

ثم بدأ عمله مع لجنة حصر الخسائر وتحديد الأَضرار، فأشرف بنفسه على فرز ما تلف وقيده، وتحديد تكاليفه، وسبل إصلاحه أو تعويضه، ثمّ أصدر تعليماته بشراء بدل التّالف وإصلاح ما أمكن من الأضرار، وتقليص التّكاليف في كلّ ذلك، ثم طلب من الجميع ساعة عمل إضافية يوميّة مجّانيّة لمدة شهر، تستغلّ حصيلتها لتغطية التّكاليف الّتي أوجبت النّار دفعها.  وحين انتهى من عمله لم ينس أن يقول لنفسه « لن يجدوا أحداً أكثر مني قدرةً على تعويض الخسائر حين تقع».
 ***
وما كاد يقول جملته هذه لذاته، حتىّ جاءه غرابٌ ينعق بخبر شجار كبير دبّ بين عمّال التّحميل والتّنزيل في أحد أقسام الإنتاج في المؤسّسة، فطار إليهم، وإذا بهم يتقاذفون الأثاث والأدوات، وإذا بالدّم يسيل من أنف هذا، وينبجس من جبهة ذلك، وإذا بالشتائم والكلمات البذيئة تتطاير من الحناجر، كأنّها سهام أو شظايا قنابل، وإذا بالعاملات قدْ انزويْنَ صارخات فزعاً.  فما كان منه إلاّ أنْ وقف وِقفته الهادئة الحازمة المعروفة، وصرخ بالجميع أن توقفوا.  فازدجروا فوراً، وتوقفوا كلٌّ في موقعه وعلى حاله، كأنّما كانوا صوراً متحرّكة، انقلبت في لحظة إلى صورة فوتوغرافية ثابتة.
أشرف بنفسه على إسعاف النّازفين، وتهدئة المنفعلين، وإعادة ترتيب الأثاث المتراشق، ثمّ عاد إلى مكتبه، بينما كان يسير خلفه قادة الشّجار منكّسي الرّؤوس.
قضى أيّامـاً وهـو يستفسـر عـن أسبـاب الشّجـار المباشرة، ويستمع للشّهـود، فيؤنّـب هذا، ويعاقب ذاك، ويسترضي آخر، حتّى انتهى إلى الصّلح بينهم، فتعانق أطراف الخصام واعتذر الظاّلم كما اعتذر المظلوم، وعاودهم إحساس لحظيّ بالسّماحة والموّدة، رغم أسباب الصّراع المستترة والمستعرة في النّفوس، ورجعت أحوال العمل إلى ما كانت عليه . . وما أن خلا إلى نفسه حتى قـال لـها بخيلاء : « لو كنت أعمل مصلحاً إجتماعياً لنجحتُ وتفوّقت أيضاً «.
 ***
ولم يمضِ سوى يومٍ واحد، حتّى أتاه مساعده، ينبّؤه بخبر آلة تعطّلت فأخّرت الإنتاج، فاستدعى الفنيّين، والمعنيّين من العاملين واصطحبهم إلى مكان الآلة المعطوبة، وصمت لحظة ليسمعهم، ويسمع معهم، صوتها الّذي كان يشبه الخوار تارةً، ويُحاكي الزّعيق تارة أخرى، ثمّ قال بعزم وحسم : « لن أبرح مكاني هذا، ولن يغادر أحد منكم، حتّى أسمع الآلة المعطوبة تهدر كما كانت من قبل، ولو ألزمني الأمر وألزمكم النّوم بجانبها حتّى مطلع الفجر « .  فراح الجميع يعملون على إزالة الصّدأ السرطانيّ الذي كان قد غزا الآلة في معظم أجزائها.  وكان يشرف عليهم بنفسه ويوجّههم، حتّى انتصف اللّيل، فعاودت الآلة عملها بنشاط، وحين سمع صوتها قال لنفسه : « ألستُ حلاّل المشاكل مهما كان نوعها ؟ «
 ***
انقضى العام الماليّ، وحلّ موسم الحصاد وجمع الثّمار، وانعقدت الهيئة العّامة لمساهمي الشّركة لمناقشة الأرقام، فقال أحد المجتمعين للمدير الأكبر :
-    
هالنا أنّ حجم القطاف في تراجع، وأنّ حصّة مؤسّستنا في السّوق في تآكل، فهل أخبرتنا بما كنت تفعله طيلة العام ؟
سقط السّؤال على رأس المدير الأكبر كأنّه نيْزك وقع من السّماء، فقال باستنكار وامتعاض :
-    
ألمّ تسمعوا بقضيّة الحريق الذي حاصرناه قبل أن يحاصرنا ؟ وقضيّة الشّجار الّذي انتهى بالصّلح بين الخصوم ؟ وقصّة الآلة المعطّلة الّتي عادت تنتج عند منتصف اللّيل ؟ وقصّة الإضراب الّذي أنهيته في لحظات ؟ وقصّة حوادث العمل الّتي تمّت معالجتها ؟ والسّرقة التي تلافيت آثارها وقبضت على فاعلها ؟ والبضاعة المعيبة الّتي سحبتها من الأسواق في أيّام وعوّضتُها ببضاعة أخرى . . ؟
فأجاب الرّجل ذاته :
-    
سمعنا بذلك كلّه، وأُعجِبنا بقدرتك على إخماد نار الأزمات بعد أن تندلع.
فابتسم المدير الأكبر بعُجب وزهوٍ ولم يردّ، لكنّ الرّجل إيّاه استطرد قائلاًوقد بدا سليط اللّسان، يتحرّى الصّراحة ولو كانت جارحة - :
-    
أنت تصلحُ قائـداً لفريق إطفاء، وتصلح محقّقاً، وتصلح مصلحاً إجتماعيّاً، وتصلح حلال مشاكل، تصلح لقمع الأزمة حين تقع، لكنّك لا تصلـح مديـراً ؟ !
كلَح لون وجه المدير الأكبر، وملأ الحُنقُ حنجرته، لكنّه تمالك نفسه، وقال بعد أن ازدَرَدَ ريقه :
-    
لماذا ؟
فقام رجل آخر من المجتمعين وقال :
-    
لقد أَطفأتَ الحريق حين تلظّى، نعم، لكن ما علِمناهُ، هو أنّك لم تكن قد وضعت في المستودع أجهزة إنذار سريع، ولم تكن قد وزّعت في مباني المؤسّسة معدّات الإطفاء اليدويّة، ولم تصُن أسلاك الكهرباء القديمة الموشكة على التّعرّي، ولم تكن لدى موظّفيك تعليمات للتّعامل مع الحريق عند نشوبه، بل لم تكن قد غطّيت خطر الحريق بوثيقة تأمين، والأنكى من ذلك كلّه أنّك لم تتّخذ أيّاً من هذه الإجراءات حتى بعد أن فعل الحريق بالمؤسّسة ما فعل ! !
قال المدير الأكبر كأنّما كان يبحث عن أيّ دفاع يتمسّك به :
-    
كلّ ذلك مكلف، وسياستنا هي خفض التّكاليف .
انبعث صوت أحد المجتمعين من زاوية القاعة قائلاً وهو يضحك :
-    
تَضنُّ بدرهم الوقاية، لتجود مُرغماً بثمن قنطار العلاج ؟
ثمّ قال آخر كأنّه يوضح مضمون ما تحدّث به المتكلّمون :
-    
لا يُنكر أحد مهارتك في التّعامل مع الأزمات حين تقع، لكن ليس لديك مهارة الإحساس بالإنذار المبكّر، الّتي تمكّنك من إجهاض الأزمة قبل أن يستفحل شرّها، وليست لديك القدرة على خلق مناخ تقلّ فيه الأزمات.  تفكيركَ يَنصبُّ دائماً على الحلِّ الآنيِّ، ولم نَلمَس أنّك تُفكِّر حتّى بما يضمنُ عدم تكرار الأزمة، أو تهتمَّ بإِزالةِ آثارها مِن نُفوس العاملينَ، أو تفعلَ شيئاً للحيلولةِ دون تأثيرها على صورةِ المؤسّسةِ في أذهانِ الجُمهور.
وهنا، قام رجل طاعن في السّن، احْدوْدَب ظهره، وتساقط جلّ شعر رأسه، وتجعّد جِلدُ وجهه ، وقال بلهجة وقورة :
-    
خمسون عاماً قضيتها في العمل والإدارة، علّمتني أنّ الأزمات المتعدّدة المتكرّرة، يكمن خلفها غالباً سوء الإدارة، وتتفاقم آثارها طرديّاً كلّما ازدادت تلك الإدارة سوءاً، فالأزمات في هذه المؤسّسة مثلاً، تشير إلى عشوائيّة وعفويّة وارتجاليّة، وسوء في تقدير المخاطر، وتردّي أساليب الضّبط والرقابة، إضافة الى وجود تشويش في الاتصالات، وترّكز القرار بيد شخص واحد، وبُعد صاحب القرار عن ميدان العمل والإنتاج إلاّ عند نشوب الأزمة، وتشير كذلك إلى انخفاض الرّوح المعنويّة للعاملين، وانحدار مستوى ولائهم، وتدنّي مهاراتهم وغياب أنظمة الأمن والسّلامة والصّيانة، كما أنّها تومئ إلى عجز عن فهم بيئة العمل الداخليّة، وأهمّ من ذلك كلّه أنّها تشير إلى استفحال الصّراع في المؤسّسة، لا سيّما الصّراع المتواري المستتر.
وما زال المدير الأكبر مستمعاً بصمت، وتعجّب، واستهجان، حتّى قال أحد المساهمين كأنّه يتهكّم:
-    
كلّ الأزمات في هذه السّنة كانت مصادرها داخليّة، وأتوقّع أن تكون في السّنة القادمة من مصادر خارجيّة.
فقال المدير الأكبر باختصار :
-    
أنا للأزمات خارجيّة كانت أم داخليّة .
فردّ الرّجل المتحدّث ذاته :
-    
لكن في العام الّذي يليه ستكون أزمات من نوع آخر، أزمة مديونيّة، ونقص في السّيولة، وذمم مدينة معدّة للاستهلاك، ثمّ خسائر تأكل حقوقنا.
قال المدير الأكبر كأنّما كان يتحامل على نفسه ليقول أيّ شيء :
-    
أنقذتُ المؤسّسة من كلّ شرّ مستطير، فكان جزائي ما أسمع، ونسيتم جميعاً صعوبة الأزمات الّتي احتويْتُها، إنّني أفضل من يدير الأزمات، مهما قلتم .
فقال أحد الحضور بصوت قاطع كأنّه يصدر حكماً نهائياً :
-    
علينا أنّ نتحرّى الدّقة في التّعابير، فقد كنتَ توقف تفاقم الأزمة بعد نشوبها، ولم تكن تحتويها، ثم إنّك في تعاملك مع الأزمات كنت دائماً مستجيباً لفعل، مستجيباً لحدث، مستجيباً لظرف طرأ، أمّا أفضل من يدير الأزمات فهو الذي يمنع وقوعها .  
قال المدير الأكبر متأثّراً :
-    
هذا فِراق بيني وبينكم، إنّها الاستقالة .
فقال أحد الحاضرين لمن حوله معلّقاً بصوت هامس :
-
هكذا حلّ أزمته الشّخصيّة، وأثبت أنّه قادر على حل الأزمات بعد أن تقع، وبأيّ ثمن.

Kasht97@yahoo.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com