الأحد، 20 مايو 2012

صُورنا الذهنية طريقنا للشفاء




إعداد: مدني قصري

عمان- إن مخيلتنا قادرة على بناء سيناريوهات رمزية تلمس معوّقاتنا وتساعدنا على الشفاء منها من دون الغوص في النوم. إنها تقنية التصور الذهني، كأن نتصوّر صور الشفاء من مرض أعيانا وأعيى أطباءنا.  
بدأ العلم يكشف لنا منذ حين عن الكيفية التي تعمل بها تقنية التصوّر الذهني. إن أهم ما في الموضوع أن هذه الطريقة تتيح لنا الشفاء حتى من الأمراض الخطيرة أحيانا. المحللة النفسية ماري ليز لا بونتيه دليل حي على ذلك. 
صار الأطباء النفسيون يعرفون منذ عقود أهمية الصلات ما بين أفكارنا وانفعالاتنا وصُورنا الباطنية وحالاتنا البدنية. 
ولذلك فقد استنبطوا طرقا أطلقوا عليها اسم "طرق الفكر الإيجابي" التي تساعد في التخفيف من العديد من الاضطرابات وتحسّن فعالية العلاجات الطبية. لم نكن حتى عهد قريب جدا نعرف سرّ ما يسمى في عالم الطب بـ "تأثير العلاج الوهمي" placebo، ولماذا يتعين على المريض وطبيبه أن يُؤْمِنا بدواء معين حتى يكون لهذا الدوار تأثير؟ لكن هذا البحث الأساسي يقدم لنا اكتشافات مذهلة تفضي إلى ميلاد عهد علم يحمل اسما معقدا "النفسي العصبي المناعي الغددي الأصم". إن هذا يعني أنك إذا تصوّرت بواسطة الصور الذهنية، وضعيةً بعينها فإن هذه الصورة الذهنية ستُحدث فيك بالضبط نفس العمليات الكيماوية، وكأنك تعيش في هذه الوضعية بشكل دائم. فلو تصوّرت، مثلا، أن شخصاً يخنقك فإن فيزيولوجيتك على المستوى الجُزَيْئِي سوف تصبح اختناقا بدنيا حقيقيا. وعلى العكس من ذلك فلو تصورّت فَكّاً (أي عملية فك عقدة) لعقدة معيّنة تعاني منها فسوف تتخلص منها. أجل ستتخلص من عُقد رهيبة في المعدة، وفي الحلق، وفي البطن، وفي العضلات، إلخ. فالمهم أن هذه الوسيلة تؤدي إلى الشفاء، بل وإلى شفاء الأمراض الخطيرة أحيانا.
ترى، كيف وصلت المحللة النفسية ماري ليز لابونتيه إلى هذه الطرقة العلاجية؟ تقول لابونتيه "سبيلي في الشفاء هو درب حياة". فبعد خمس سنوات من التهاب المفاصل التي باتت تهدّدها بالشلل توجهت ماري إلى باريس حيث تلقت العلاج على يد تيريزا بيرتيرات المتخصصة في العلاج الحركي. وبعد عودتها إلى كيبيك بعد شفائها فتحت مركزا للعلاج السيكوباتي (النفسي البدني)، وواصلت التكوين مع الدكتور سيمونتون الرائد في مجال العلاج النفسي العصبي المناعي. 
وفيما تطورت ماري ليز طريقة خاصة بها أطلقت عليها اسم "التخلي عن الدروع" القائمة على العمل على البدن وعلى التصور الذهني والعلاج النفسي معا. واليوم تلح المحللة في كتابها الجديد الذي اشتركت في تأليفه مع المحلل النفسي نيكولا بورنيميسا، التابع لمدرسة كارل غوستاف يونغ للتحليل النفسي، حول أهمية الصور الذهنية في العلاج. 
لكنْ كيف كان تأثير الصور الذهنية على شفاء ماري ليز لابونتيه نفسها؟ وتجيبنا قائلة:"في المساء الذي قيل لي فيه إنني سأنتقل قريبا إلى الكرسي المتحرك رأيتني فجأة وقد انتقلت إلى المستقبل، وأنا في السابعة والأربعين، أموت موتا بطيئا بالتهاب المفاصل. وهنا فجأة لمع حدسٌ في أعماق ذاتي فقلت لنفسي: "لا!" وتمدّدت على الأرض وبدأت في الحركات التي وصفتها تيريزا بيرتيرات في كتابها. وهنا بدأتْ عملية الشفاء تعمل في داخلي تدريجيا. كانت آلامي فظيعة، وكانت قدرتي البدنية جد محدودة. لكنْ أحسستني أتخفف شيئا فشيئا من آلامي، وهو الشعور الذي لم أشعر به منذ سنوات طويلة: الراحة النفسية! وقررت أن أتّبع هذا الدرب. وبعد مرور شهر واحد بِعتُ كل شيء. وتخلصت من العُكازين اللذين كنت أستند إليهما. وبعد عام واحد استعدتُ قدرتي على المشي، والركض ثم الرقص". فلنتصور هذا الذي تحقق فيه الشفاء من مرض مزمن بصورة ذاتية، من دون تدخل أي علاج خارجي عن ذات المريض!
 إن السر في هذا الشفاء يكمن في الصور الذهنية الكامنة في قلب الذات، إذ تقول ماري ليز "سرعان ما اكتشفتُ الدور الحاسم الذي لعبته الصور الذهنية، أوّلا في مَرَضي، ثم بعد ذلك في شفائي، كانت الحركات، فضلا عما تجلبه لي من تخفيف للألم تُعيد إلى ذهني الذكريات المنسية، البصرية منها والسمعية، وتعيد على ذاكرتي الأوضاع العويصة التي عشتها وأنا طفلة ثم بعد ذلك كبتُها لما تحمله من ذكريات مؤلمة.
كل هذا يوضح لنا أن الجسم عندما يتحرر من قيوده الانفعالية المكبوتة يصير يتكلم بحرية، وهنا تؤكد لنا ماري ليز أن الجسم، مثله مثل الأحلام، هو وسيلة اتصال مع اللاشعور ومع طاقاته الكامنة. فالأعراض المَرَضية تعني أن المتحدث الحقيقي باسمها هو اللاشعور". فالطب العام والخاص، يعتقد أن الأعراض هي المرض نفسه، ولذلك يبقى الشفاء ناقصا في معظم الحالات، ويكلف المريض معودة الطبيب او الانتقال من طبيب إلى آخر إلى ما لانهاية، مستنزفا من غير طائل، طاقته وماله. ولذلك تؤكد ماري ليز "لا يأتي الشفاء الدائم من الأمراض إلا من خلال التواصل مع عالمنا الباطني". 
وتقول: ماري ليز "إن الحوار مع اللاشعور لا ينفصل عن العمل على الجسد، وهو العمل الذي ينبغي أن نبدأ به دائما، من أجل الاسترخاء، وتحرير عملية التنفس (التي كثيرا ما تكون مختنقة أو بطيئة بسبب الضغوط النفسية)، وإطلاق التوترات، وتحرير العضلات، والتخلي من ثم عن الدروع المنيعة التي نتشبث بها، عن غير وعي منا في معظم الحالات. 
لكنَ الصور الذهنية لا يمكن أن تطفو على السطح (أي على صعيد الوعي) إلا إذا أراد الناس ذلك وتهيأوا لاستقبالها عن وعي. لا يمكن أن نسطو على اللاشعور لكي نُرغمه على الحديث، بل علينا أن نُصْغي وننتظر انطلاقا من الصور الذهنية الباطنية، والتي لا تظهر إلا من خلال جسد في حالة استرخاء تام. فالمُهم، مثلا، تحرير درع الحوض، وعضلات الظهر، ودرع المنطقة الصدرية. فمن خلال هذه التمارين الاسترخائية ستتحرر في داخلنا دورة كاملة للطاقة التي تتيح للجهاز العصبي  بأن يشرع في العمل، بما يُسهّل التواصل مع الجزء الأيمن من الدماغ، أي الجزء المُعطل فينا في معظم الأحيان، وهو القناة التي تربطنا بعالم اللاشعور الذي يمدنا بطاقاته الكامنة التي لا حدود لها".   
ونستخلص من هذا التحليل أن هذا العلاج يساعد إذن على تغذية وتعزيز طاقتنا الكامنة على العلاج الذاتي. إنه الهدف عند ماري ليز التي تؤكد ذلك قائلة: "إن الهدف العميق لأي مرض ليس هو نفسه عند كل الناس. فعندما يذكر لنا أحدهم رمزا من الرموز نسأله "أي معنى يوحي به إليك هذا الرمز؟" فالأمر أشبه بتصوّرنا الذهني في الرياضة مثلا: نستطيع أن نتخيل الفوز، لكن إذا كانت لدينا مشكلة مع الفوز فلن ينجح التصور. وكذلك الأمر مع التصورات الجاهزة: فإذا استوحينا صورة الشفاء من كتاب فلن يتفق اللاشعور معنا وبالتالي سنقع من جديد في عملية المرض نفسها.   
إن أساس الكثير من الأمراض قائم أصلا على عملية لاشعورية من الهدم الذاتي. ففي كثير من الأحيان عندما نسأل المريض عن مصدر مرضه إذا به يذكر صوتا خفيا يخاطبه قائلا: توقفْ، وإلا صار الأمر أخطر!" لكن معظم الناس لا يرغبون في الإصغاء ولا في المعرفة. فالمهم هو مساعدة المريض على تطوير علاقة حب مع ذاته، بعيدا عن النرجسية. "إن تصوّر الشفاء تصورا ذهنيًا وحده كفيلٌ بتحقيق الشفاء، لكنني آثرتُ الذهاب أبعد منذ ذلك، والاعتماد على الصور الجوانية العفوية، وصولا إلى الدروع المنيعة التي تقف حائلا بيننا وبين الشفاء. لقد تعلَمتُ الكثير، تضيف ماري ليز، من أحد المحللين النفسيين التابعين لمدرس يونج الذين يتحاورون مع اللاشعور الجمعي، عن طريق تفسير الأحلام، وأحلام اليقظة، ومن هنا أنجزتُ طريقتي الخاصة في الشفاء التي صارت سبيلي في الحياة بكاملها".  
تلك هي طاقة العقل الكامنة التي يمكن لكل واحد منا أن يستكشفها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com