الخميس، 31 مايو 2012

(غراب).. استعادة جديدة لسينما الخيال والرعب



صورة

ناجح حسن - اثرى الكاتب الاميركي متنوع الاهتمامات «إدغار الان بو» الادب والثقافة الانسانية، بالوان سردية شديدة الجاذبية سواء بلقياتها الفريدة من ناحية موضوعاتها ومفرداتها أو في اجوائها وعوالمها الممتعة .
نهض ادغار الان بو ( 1809 – 1849) بالقصة والرواية البوليسية ومنحها تلك اللمسة الخاصة باعتبارها اشتغالا ابداعيا وفطن إلى رسم الشخصيات والتدرج بصعودها في عالم الجريمة بتشويق بوليسي نادر لا يحيد عن الالتزام ببنيته الاساسية التي تتأسس على تفاعل حيوي مع آمال المجتمع والامه إبّان حقبة زمنية تعود الى القرن التاسع عشر.
أكثر ما يلفت في أدب بو القصصي تلك البراعة المدهشة في قدرته على الاحاطة بتفاصيل عوالم الجريمة المستمدة من داخل بيئة اجتماعية واقتصادية الى فضاءات ابداعية رحبة ملتزمة بشروط وقواعد لعبة اللغة في الوصف والتصعيد والغوص في دواخل الشخصيات، لتكون النتيجة انجازات بديعة على صعيد الأدب البوليسي الذي طالما جرى تهميشه من النقاد والكتاب.

الجريمة والتشويق 
ومع بدء الصناعة السينمائية فجر القرن الفائت، كان البحث عن قصص الجريمة والتشويق خصوصا تلك التي يقوم فيها رجال البوليس بالتحري عن القاتل، وجهة لشركات الانتاج الصاعدة انذاك.
ورأت تلك الشركات في العديد من القصص والروايات البوليسية امالا لها في صناعة سينمائية ترفد القائمين عليها بالشهرة والمال ، الا ان تلك الانجازات الفيلمية اقتصرت على روايات اتسمت موضوعاتها بالاندفاع المحموم صوب اذكاء الغرائز والمبالغة في تصوير اجواء الجريمة والغموض محفوفة بمشاهد الافراط بالمطاردات والقتل المتواصل دون اي توظيف جمالي او درامي لغالبية تلك الافلام، التي بالفعل حققت لصانعيها الكثير من المال والشهرة في عالم الفن السابع، لكن في الوقت نفسه وقف النقاد ازاءها بحيرة وقلق وانتظار لمهنية وحرفية مخرجين يعيدون توجيه الفيلم البوليسي الى متاهته الرحبة، حيث تتجلى فيه العقلانية والبراعة في التحليل المنطقي للحبكة الدرامية وتنامي ادوار الشخصيات.
لم يكن ذلك الامر ليطول عن السينما التي تجتهد في البحث عن الرواية والقصة البوليسية، حيث جاءت قائمة ابداعات الشاعر والقاص ادغار الان بو في هذا السياق تنويعا على قائمة افلام الرعب والتشويق البوليسي المنجزة ، ويتوقف أمامها النقاد مليا، وغدت اليوم من بين تلك الاعمال السينمائية الكلاسيكية التي يشار الى قيمتها الفكرية والبصرية في العديد من عروض التنشيط والتثقيف والتعليم السينمائي.

الحفرة والبندول
ظلت السينما العالمية الاوروبية والاميركية معا تنهل من ادب بو المثير في عناصر التشويق والجريمة والتتبع البوليسي، عندما عملت على اقتباس قصص: (جرائم قتل في شارع المشرحة)، (الحفرة والبندول)، (الغرفة المختومة)، (قناع الموت الاحمر)، (سقوط بيت العائلة آشر)، (شبح ادغار الان بو) جميعها جرى تحويلها الى افلام منذ حقبة السينما الصامتة الى اليوم، حيث تواصلت جهود مخرجيها على مدى قرن ويزيد في التنافس على اعمال بو القصصية والروائية والشعرية وتحويلها الى افلام سينمائية المرة تلو الاخرى، حيث جرى اقتباس البعض منها أكثر من مرة ، نظرا لما تفيض به من احاسيس ومشاعر في الترقب والتتبع داخل اجواء من التشويق الممتعة المصحوبة باشكال من الرعب والشر والجريمة في اقتباس فريد في صنعته، سواء جاءت تلك الاعمال من قبل مخرجين شباب في اطلالتهم الاولى على الكاميرا أو عبر نتاجات مخرجين راسخين.
حديثا جاء الفيلم الاميركي الجديد المعنون ب(الغراب) الذي حققه المخرج جيمس ماكتيغ، وتعرضه صالات العاصمة عمان حاليا، وهو يعاين موضوعه التشويقي من خلال الايام الاخيرة في سيرة حياة الكاتب ادغار الن بو الذي غيبه الموت مبكرا عن 40 عاما ، حيث يضطلع الممثل جون كوزاك بالدور الرئيس فيه ويتقمص شخصية الكاتب بو الذي بدأ يعاني من حياته الرتيبة قبل ان يتعرف على خطيبته التي يختطفها قاتل متسلسل اتكأ على اساليب الجريمة التي يخطها بو في قصصه وحكاياته وتنشر في احدى الصحف بالمدينة ، ثم تبدأ الشرطة بتعقب القاتل بمعاونة الشاعر بو نفسه الذي كان له الدور الرئيس في وضع النهاية لمسلسل جرائم القاتل البشعة.
يعد (الغراب) الذي حمل عنوان واحدة من اشهر قصائد بو الشعرية، احد ابرز انواع الخيال والغموض والتشويق والرعب، كونه يقتحم جوانب من الحياة الشخصية لهذا الكاتب البديع الذي توازي قامته ادباء تشارلز ديكنز ومارسيل بروست وانطون تشيخوف .
تتبدى اهمية اعمال بو منذ أفلمة روايته (جرائم القتل في شارع المشرحة) 1932 إخراج روبرت فلوري وفيه يمسك بتلك الخطوط العريضة الأساسية لقصة بو، ولكن الجريمة هنا يقترفها وحش , الامر الذي يتطلب مطاردته والحاق الهزيمة به من على سطح مبنى.

اشارات ودلالات
وكان المخرج البريطاني روجر كورمان من بين افضل المخرجين الذين اشتغلوا على قصص بو في فهم دقيق لابعاد موضوعاتها التشويقية وتوظيفات المخرج المكانية والزمنية للاحداث وما تفيض به من اشارات ودلالات حول المجتمع الاوروبي الذي بدأ يتجه الى المزيد من التحولات السياسية التي قادت لاحقا الى خوض حلقات من العنف والحروب.
أثمرت جهود كورمان عن ستة من اشهر الأفلام المأخوذة عن حكايات بو هي : (بيت العائلة آشر) 1960، (الحفرة والبندول) 1961، (دفن قبل الأوان) 1962، (حكايات من الإرهاب) 1962، (قناع من الموت الأحمر) 1964و (قبرة) 1964 فضلا عن اثنين من الأفلام هما (الغراب) 1963 و(قصر مسكون) 1963 التي تستخدم قصائد بو كأطار، حيث تألق الممثل فنسنت برايس بمعظم هذه الأفلام حين جسد ادوار المجنون، الفاسد، القاتل، في ابعاد الشخصيات التي قدمها بابعادها البليغة والشديدة الشاعرة وهي تستكشف العصر القوطي وعينها على بث التحذير من تداعيات واقع الفترة آنذاك داخل لحظات من الرعب والتشويق المغاير للسائد في السينما المعاصرة.
كان كورمان مهووسا بنظريات علم النفس الفرويدي وباستكشاف المناطق الداخلية من العقل واللاوعي الذي يدفع بشخوص بو الى احتراف الجريمة والوقوع في دائرة الشك والرغبات والجنون.
ففي الفيلم المسمى (القطة السوداء) 1934 إخراج إدغار جي أولمر، والتي يبدو من الظاهر ان لا علاقة له مع قصة بو التي تحمل نفس الاسم، حيث تدور الاحداث إبّان شهر العسل لعروسين يجدان نفسيهما محاصرين داخل قصر غريب تحوم حوله العديد من الاساطير التي تدور حول الشيطان والقطط السوداء .

مثير في التأمل
وحملت احدى المرات التي جرت فيها أفلمة (الغراب) العام 1935 اخراج وتمثيل لاندرز ليو قصة ذلك الرجل المهووس مع بو وأعماله، حيث يلعب دور طبيب مسه الجنون نتيجة حب بلا أمل، وهو ما يدفعه الى عالم الجريمة والقتل متوقفا امام جهاز تعذيب داخل حفرة وهناك حركات البندول يبدو فيها الغراب كلازمة مثل تعويذة لمجرى احداث الفيلم .
يشار الى ان المخرج الاردني محي الدين قندور صاحب فيلم (الشراكسة) 2010، قدم خلال اقامته في هوليوود العام 1974 ، فيلما حول حياة بو بعنوان (شبح ادغار الان بو) جرى توزيعه في العديد من ارجاء العالم، وحاز على ثناء النقاد والحضور انذاك، وذلك لمعالجته الدرامية والجمالية الجريئة التي احاطت بعوالم هذا الشاعر والاديب الاميركي الذي أدى دوره بالفيلم الممثل روبرت ووكر على نحو مثير في التأمل والغموض الآسر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com