الأحد، 16 ديسمبر 2012

«نعــــم» لتعريـــــب العلــــوم !

صورة

سامح المحاريق -   يصيب الرعب بعضا من التربويين والمتخصصين في شؤون العلم، من الحديث عن تعريب العلوم، وحجتهم أن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الانفصام بين العرب وبين مجريات العلم الحديث وتطوراته، والصواب، هو العكس تماما، فالانفصام الذي حدث طيلة عقود مضت، وتفاقم بحيث تخلف العرب بمسافات كبيرة عن مجريات التطور العلمي، كان من أحد أسبابه التلكؤ والتردد والفشل في تعريب العلوم، وليس تدريس هذه العلوم باللغة الإنجليزية.

 أساس المجهود الخاوي والخائب 
يمكن أن يخشى المتخصصون في العلوم الطبية أو الهندسية أو الزراعية من التعريب، إذا كانت ستتم عمليات التعريب على أساس المجهود الخاوي والخائب الذي أسداه بعض علماء اللغة، بترجمتهم لكلمة الساندويتش واعادتها   إلى : (شاطر ومشطور وبينهما  من الكاموخ   )، فذلك عبث مطلق ومطبق، وينافي مجموعة من القواعد التي تتعلق بفلسفة اللغة وعلومها، وهي قاعدة الاقتراض، فلغات كثيرة اقترضت كلمات من العربية، ومنها الفارسية والتركية والسواحلية واللاتينية (اللغة الأم للفرنسية والايطالية والأسبانية)، والعربية أيضا، اقترضت من أقدم الأزمنة كلمات من الفارسية، وبعد ذلك أخذت تقترض من غيرها من اللغات، فالاقتراض هو شأن طبيعي لا غبار عليه، ولعل القرآن الكريم به كلمات اقترضت من لغات أخرى، والإمام السيوطي يجعلها 129 كلمة، وذلك لا يتناقض مع مقولة أن القرآن عربي مبين، فالاقتراض ضرورة، والتبادل بين اللغات ضروري، فلا يوجد أمة يمكن أن تعيش لوحدها بمعزل عن التجارة مثلا.

التعريب لا يعني
 تعريب أسماء الأشياء
لن يكون بإمكان من عربوا الساندويتش بالطريقة المبينة، أن يعربوا البنكرياس مثلا، ولكن توجد كلمات عربية أصيلة  للكلى والطحال والرئة وكثير غيرها من الأعضاء، ولا توجد أي مشكلة في اقتراض كلمات أخرى، خاصة أن الطب العربي الإسلامي لم يتمكن من التعرف على البنكرياس أثناء فترة تطوره وقيادته لتطور العلوم الطبية.
 ثم أن التعريب لا يعني تعريب أسماء الأشياء، فهي تسمى أحيانا بأسماء العلماء الذين اكتشفوها أو نسبة لظروف معينة، دون أن يمتلك الإسم رابطا دلاليا ببيئة العلم الذي ينتمي إليه، مثل وحدة نيوتن التي نسبت إلى العالم الشهير، أو ثابت بلانك المنسوب أيضا إلى عالم الفيزياء المعروف. 
التعريب هو للعلاقات، كما أن البيان هو الصياغة التي ترتبط بها المفردات وليس المفردات نفسها، فمجرد وجود الكلمة لا يعني فصاحة أو بيانا، ولكن ترابطها مع غيرها يؤدي إلى أن يوصف الكلام بالفصاحة أو الإبانة، وفي العلوم كذلك فلا يوجد مشكلة في شرح العلاقات بين الأشياء والمصطلحات بالعربية، أما تعريب المصطلحات نفسه فهو لغو، وهو أحد الوسائل التي سعت بعض المؤسسات التي جمعت علماء اللغة للارتزاق أو البحث عن دور في العقود الأخيرة، وكل جهودهم المشكورة، وغير المحمودة، لا طائل من ورائها. 
- لماذا؟
 لأن العرب أنفسهم يمكن أن يفرزوا المصطلح ويعربوه، دون وساطة المجامع أو وصايتها، فمثلا لم يعرف العرب القنبلة قبل أن تعرضوا لقصفها في القرن الثامن عشر، وسادت لفترة كلمة البومبة التي هي نقل عن الإنجليزية Bomb، ولكن الناس أنفسهم، ودون تدخل من أحد، أخرجوا من لغتهم المحكية كلمة القنبلة، والتي هي أحد الفخاخ التي يصنعونها لاصطياد الحشرات وتصدر صوتا يشبه الانفجار، وهذه هي الطريقة الصحيحة للتعريب من خلال المجهود الجمعي والوجداني للمتحدثين بالعربية وليس من خلال مؤسسات (كهنوتية) تحتكر اللغة وتعيق تطورها. 

اللغة كانت تتطور
اللغة العربية تطورت، وهي جديرة بأن يتم تدريس العلوم بها، فالذي يقرأ نصوصا جاهلية أو أموية أو عباسية أو مملوكية، يعرف أن اللغة كانت تتطور، وكانت تقاوم، كانت كائنا حيا، وليس مجرد قواميس ومعاجم، ولو أن محمود درويش أو نزار قباني مثلا تقدما بنصوصهما إلى المنفلوطي أو الرافعي لحصلوا على علامة الصفر، ولكن اللغة أكبر من كل الأسماء التي تمر في تاريخها، وسيبيويه لا يمتلك سلطة على اللغة أكثر من التي يمتلكها البسطاء الذين يتحدثون بها في البادية والريف، لأنها في النهاية لغتهم وحياتهم وعالمهم. 
النقطة المهمة، أن بقاء العلوم تدرس باللغات الأجنبية هو ما يحول دون تقدم الطلبة العرب في مجالات العلوم، لأنهم لا يرتبطون وجدانيا مع العلوم، واللغة التي يفكرون بها، تختلف عن اللغة التي يتعلمون بها، فكيف يمكن أن يحدث الإبداع، كما أن بعضهم يضطرون للتلخيص وفهم العلوم عند الحد الأدنى الأمر الذي يمكنهم فقط من تطبيق مخرجات العلم، ويحدث كثيرا أن تلتقي مع دارسين للهندسة وهم لا يتقنون الحديث باللغة الإنجليزية أو الكتابة بها إلا في الحدود الدنيا أو المتوسطة، وذلك بسبب طريقة التعليم، والحل، يكمن في التعريب الصحيح القائم على دراسات منهجية وتطور في الرؤية والفكر تجاه العلوم التي يجري تعريبها.
  
العالم المرتقب ..بيئة متواضعة!
من يرون الحل في تدريس الإنجليزية في مراحل مبكرة مصيبون إلى حد ما، ولكنهم ليسوا عمليين على الإطلاق.
 فالمبدع في مجال العلوم لا يجب أن يكون بالضرورة من فئة اجتماعية تستطيع أن تلحق أبناءها بهذه النوعية من المدارس، ويمكن أن يكون العالم المرتقب الذي ينتج ويطور قادما من بيئة متواضعة، وحدث ذلك كثيرا في تاريخ العلوم، كما أن طموحنا الحضاري يحول دون أن نصبح منتجين للتقنية دون أن نكون مشاركين بهويتنا وقيمنا في صياغة العالم، وهو الأمر الذي لا ينفصل عن ضرورة الثقة باللغة التي نتحدثها، وهي تستحق الثقة، ربما لأنها اليوم من أقدم اللغات، أو لعلها الأقدم في الاحتفاظ بهويتها وشخصيتها واستقلالها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com