الخميس، 27 سبتمبر 2012

نظرة على السينما الاوروبية الجديدة .. رهانات التجريب واسئلة المعرفة

صورة

ناجح حسن  - يحفل برنامج الدورة الرابعة والعشرين لمهرجان الفيلم الاوربي الذي تنطلق فعالياته برعاية سمو الاميرة ريم علي، بدءا من يوم الاحد المقبل، بأشكال من التنوع لحركات وتيارات التجديد المتعاقبة في اكثر من بيئة اوربية، تعج باسئلة ورهانات على رؤى جمالية وفكرية مجبولة بفطنة صانعيها في الاشتغال على ابتكار عناصر بصرية ودرامية .

تطور اساليب
منذ بداياتها في القرن التاسع عشر، وعبر مراحل تطورها ابان استهلال القرن الماضي، اخذ الفيلم الاوروبي يتقدم الى ما هو عليه الان، مستفيدا من تقدم السينما في القرن الحالي حيث التقنيات الرقمية (الديجتال)، وهي تعمل على تغيير الطرق والاساليب التي يصوغ فيها السينمائي فيلمه في اشكال متعددة من التسجيلي والدرامي والتجريبي والصور المتحركة بمصاحبة من التقدم التقني ايضا في مجال تطور اساليب العرض والمشاهدة للافلام .
  وبشكل ما يعيد التاريخ نفسه، حيث تطور الرؤية الفردية المبكرة كما في تجارب الفرنسي لوميير والاميركي اديسون وصولا الى ما يشاهده المرء منعزلا امام الشاشة داخل بيته عبر التلفزة او اشرطة واقراص / السي دي/ او /الدي في دي/، وفيها يلمس المشاهد من جديد الوانا من نواحي الاثارة والجاذبية التي تقدمها افلام الحركة والمغامرات، وما تفيض به من ابهار بصري يصل الى درجة الجموح والمغالاة التي تنهض على ميزانيات وكلف غير محدودة تذهب في قطاع كبير منها الى المؤثرات الخاصة في الحقل السمعي البصري .
من هذا الحقل الابداعي الفريد واشكالياته العديدة التي قد لا تتلائم مع اذواق ثقافات ونظريات وتوجهات الاخرين جاءت نتاجات السينما الاوروبية الجديدة،  وهي تجمع تلك الرؤى والقواعد والاحكام المغايرة لمفاهيم السينما السائدة، وعبرت عن ذلك بمنظومة من القراءات والدراسات والبيانات والادبيات الاكاديمية النقدية المزنرة بمعارف وعلوم انسانية واجتماعية وفلسفية، شكلت لاحقا ركائز لسينما راسخة محملة بملامح شديدة الخصوصية والامتاع .
اقترن منجز الفيلم الاوروبي ببلاغة عناصر الصورة وطروحاتها الفلسفية وعلوم الاجتماع والجماليات ، بحيث اثمرت لاحقا مذاهب ومدارس وتيارات واساطين وقامات سينمائية رفيعة لهم بصمتهم التي لا تمحى على خريطة المشهد السينمائي العالمي برمته .
اشكاليات الذات
من بين مخاض عسير ولدت ابداعات: انجمار بيرغمان ، لوي بانويل، فيدريكو فيلليني، بيار باولو بازوليني، جان لوك غودار فرنسوا توفو، بيدرو المودفار، كينيث براناغ، راينر فاسبندر واترابهما كثير موزعين في ارجاء القارة الاوروبية ، وهي تتضمن سلسلة من القراءات البصرية  الرصينة والشديدة الاعتناء بتفاصيل تنهل من اشكاليات الذات لدى الفرد في حراكه اليومي في ثنايا المجتمع الاوروبي في اكثر من حقبة .
 واكبت تلك الانجازات التي غدت اليوم من بين اشهر كلاسيكيات السينما العالمية، ابرز محطات النهوض بالفن السابع، عبر ابتكارات صانعيها في تقديم افلام داخل اسس عمل تلتزم بتيارات جديدة سجلت حضورا طاغيا بارجاء المعمورة، وعرفت العالم بمراحل تطور اشهر طاقاتها ومبينة وسائط انتاجها وكاشفة عن خيال صانعيها الرحب في براعة الغوص بواقع وهامش منسي طالما ركنته السينما السائدة في زاوايا النسيان، ومن دون ان تفطن اليه الا في النذر اليسير من الاعمال، قبل ان تغدو تيارا جارفا يستلهمه سينمائيون ودارسون ومفكرون ومبدعون دون حدود او فواصل حضارية وثقافية.
يحيط منجز  تيارات السينما الاوروبية المتباينة، بتلك الحركات الاساسية على مدار تاريخها، دون اغفال التطورات الجارية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهي تعاين مساهمات الافراد داخل السياق الصناعي او التاريخي العريض بشكل عام، ولافتة في الوقت ذاته من خلال ابرز عناوينها الى تلك الملامح الزاخرة التي ادت الى تلك التحولات التي عاصرها الفيلم الاوروبي واسهاماته المبتكرة على مدى تاريخ السينما كشاهدة على مازق الحداثة التي افرزتها نتاجات روائية في اشتغالاتها على حدى التجريب  والسريالية، رغم مسايرتها لمتطلبات ووقائع شكلت تحديات في انطلاقتها سواء ابان الازمة التي عصفت بها  في حقبة الثلاثينات من القرن الفائت او ما بعد الحرب، وانتهاء  بالعصر الذهبي لاستوديوهات السينما الايطالية (سينيستا)، وفورة السينما في البلدان الاسكندنافية او ما اصطلح عليه بتيار سينما (الدوغما)، الذي اعقب تيار مدرسة كوميديا راينلنخ الى الموجة الجديدة في فرنسا والسينما الحرة في بريطانيا، والسينما الاسبانية المعاصرة، اضافة الى العديد من عناوين اطلقتها نظريات النقاد على افلام اوروبية تنهج تيارات سينما المؤلف رغم ما واجهته من تحديات لاسس واحكام العرض والتوزيع الدارجة في سوق الفيلم الاوروبي، داعية الى الى البحث عن عوامل النهوض بها .

تعابير بصرية
ولئن نجح البعض من اشتغالات مخرجي الفيلم الاوربي في الانعتاق الى خارج حدود القارة، بفعل تراكم خبرات مهنية واحترافية وانتاجية ، فان كل ذلك الانجاز ما كان ليصمد امام تيار السينما التجارية الطاغي، لولا امتلاك صانعيها لهاجس تحقيق احلامهم في استيلاد حالات من التعابير البصرية والدرامية الحديثة غير المالوفة، دون ان ينأى العديد منهم أو يقطع صلاته بسمات موروثه السينمائي في ميادين: الرومانسية والتاريخية او الكوميدية وانتهاء بالمنحى البوليسي التشويقي .
التصقت السينما الاوروبية بالهوية الوطنية في اكثر من موضع، وهي طالما ظلت حديث مقالات ودراسات في السينما الفرنسية مثلا .. كما أشارت اليها ادبيات السينما التي تعانق مواضيعها بافتتان وبلاغة شرح وتفسر احتفال السينما الاوروبية بابداعها الذي يمثل جوهر التجريب، والتي هي بالوقت نفسه تكشف عن تلك المواهب في توالي اجيال صانعيها رغم حالات من الانكفاء والعزلة وحصار هم بطوفان السينما الغزيرة الانتاج وقواعد السوق السائدة.
ظل عشاق السينما في بحث متواصل عما يلبي رغباتهم من بين منجز السينما الاوربية الجديدة لما يمتلكه صانعوها  من ذائقة رفيعة هي خلاصة مشور طويل من عوالم الابداع والاثر الذي عاصر نتاجاتها منذ فجر السينما الصامتة.
احتضنت هذه السينما قدرات مخرجين قادمين من ثقافات انسانية مغايرة وفيها غاصت طروحاتهم ومعالجاتهم السينمائية بالهامش وبيئات ضواحي المدن الكبيرة ، خاصة تلك التي يقطن فيها افراد الاقليات وعنهم وبهم حققت السينما الاوروبية الكثير من الافلام الراسخة في وجدان عشاق الفن السابع .
   وتنعم صورة المرأة في السينما الأوروبية الجديدة بعواطف ومواقف إنسانية مؤثرة في أجواء متباينة من القصص والحكايات، تتأرجح بين عصف التحولات التي تستشري في تفاصيل حياة ومصائر بطلاته اللاهثات، وشغف الأشواق والأحلام المجهضة إلى شقهن الآخر، غير مكترثات بتعدد أسباب الفراق، وتعقيدات أواصر التلاقي بحكم إيثار العزلة والوحدة ورغبة العيش في أماكن بعيدة من أرجاء المعمورة .

تنوع ثقافي
 يطرح تشينيه من جملة ما يفيض به فيلمه من قصص وحكايات شتى, ألوان العواطف المستمدة من أصول لها صلة بحراك الواقع الإنساني الذي يعكس أجزاء من الحقيقة، ويتغاضى عن الخوض فعلياً في المتغيرات والثوابت العائدة  لأكثر من بيئة ثقافية وإنسانية. 
الجامع الرئيسي بين هذه الحكايا والقصص قدرة وإلمام مخرجها في عكس النبض الآتي من جريان إيقاع الحياة المعاصرة, إذ إن المقصود هنا ليس القول أن الطريقة التي تختلط فيها هذه الأحداث بنماذج من الشخصيات والأنماط البشرية غير المكترثة لا لعدالة ولا لقانون، بل لإنها نجحت كافلام فنية في توظيف ظواهر ودلالات تتصدى لجملة من القضايا والموضوعات طالما ظلت تحفر حيزها الخاص بدواخل النفس الإنسانية، او تلك التي تعصف بالواقع المعاصر وتفرزها تطاحنات الحياة اليومية المجبولة بلحظات البهجة والفرح والنجاح والبراءة وما يقابلها من  شتى أشكال المأساة و العزلة والفراق والغياب والقسوة، حيث تتلون موضوعاتها  بعلاقاتها المضطربة على نحو تشويقي يرصد قصصا ووقائع وظروف عن معاناة النساء جراء إشكالية الهجرة والانفصال، أو جراء المغامرات غير المحمودة العواقب. 
تظل السينما الأوروبية في أغلبية معالجاتها الإبداعية لأزمات ومصائر بشرية وهي في حراكها ودبيبها بالحياة اليومية، تنبض دوما بتلك الأحاسيس العميقة والمشاعر الإنسانية الدافئة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com