الأحد، 27 يناير 2013

الافتراضيون يغزون أرض الواقع..!

صورة

سامح المحاريق -  الخبر الذي تنتاقلته وسائل الأخبار قيام نجار مصري بقتل أحد الموظفين، لأن الأخير قام بسبه على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك، علما بأن هذه الجريمة لم تكن لتتم لو أن الموظف نفسه قام بتوجيه السباب للنجار على أرض الواقع. ووجها لوجه، وبغض النظر عن تفاصيل الخبر، فنحن أمام ظاهرة جديدة تستحق القراءة، فالنجار الجاني استشعر الإهانة لأن من قام بتوجيه السباب له أوجعه نفسيا وتسبب في إحباطه أمام أصدقائه الافتراضيين، والذين يضمون مجموعة كبيرة ممن يهمه أمرهم، ومن يحاول أن يحتفظ أمامهم بأفضل صورة ممكنة، فينتقي أفضل الصور له ليعرضها أمامهم، ويتخير أفضل التعليقات التي تبدي حكمته ورزانته، أو تأملاته العميقة، أو إنسانيته الحساسة، لتكون الصورة التي يفضلها عن نفسه أمام مجتمع الإلكتروني، وهي طريقة أسهل كثيرا، وأقل تكلفة، من محاولة إجراء هذه التحسينات على أرض الواقع.
 ففي الحالة الثانية، فإن الشخص يكون مكشوفا بجميع مشاعره الحقيقية، ويقوم بمجمل إدائه الإنفعالي في مواجهة ضغوط الحياة المختلفة، ويمكن أن تلفت منه صور كثيرة غير مرغوبة، ورسائل سلبية متعددة، أما الفيس بوك، فينحصر فيه الأداء الإنفعالي الإيجابي الذي يحرص دائما على صيانته ورعايته.
لننتقل إلى تويتر، البعض يدخل في معارك تراشقية على الموقع الذي تمكن من استقطاب مئات الملايين ابتداء من رؤساء الدول الكبرى، وحتى طلبة المدارس الابتدائية الذين يزورون تاريخ ميلادهم ليحظوا بفرصة امتلاك حساب على الموقع، وكثيرا ما تجد شخصا منفعلا بصورة مبالغ فيها يجلس إلى طاولة في مقهى، أو يختلس دقائق من وقت العمل، ليدخل في معارك التويتر، فالجميع يريد أن يدافع عن وجهة نظره، أو عن الفريق الذي يؤيده، ابتداء من الفريق السياسي، وحتى فريق كرة القدم، أو المطرب المفضل أحيانا، وهذه المعارك تنزلق كعادة أي حوار عربي، من الحديث عن الموضوع نفسه، كأن يناصر أحد ما اليسار أو اليمين، ليتحول الحديث عن التفتيش في نوايا الشخص، أو تاريخه، أو حتى عيوبه، ويبدأ الحوار الذي يفترض أنه قائم على الحجة والإقناع، ولا يمكن أن تتوفر هذه الحجة في 140 حرفا هي سعة رسالة التويتر، ليتحول في غضون دقائق إلى مسألة ذاتية وشخصية تستدعي (التوتير) و(العصبية).
كان يفترض بالمواقع الإلكترونية أن تكون فضاءا لاستشعار التوجهات الاجتماعية بصورة بالغة الحساسية، ففي زمن الإعلام التقليدي لم يكن تلقي ردود الفعل بصورة فورية ممكنا، ومع الإعلام الإلكتروني أصبح ذلك ممكنا، وأصبح بوسع الملايين أن يعبروا عن رأيهم سواء الانطباعي الأولي، أو الرأي بعد التفكير والإثراء والاستفادة من الآراء الأخرى، فأي خدمة كان يمكن أن تقدمها هذه المواقع للديمقراطية والعمل العام ولإعادة إحياء أفكار جديدة جرى قمعها لعقود وقرون، والعمل على تشاركية المعرفة وتوسعة الأفق الجمالي والفني، ولكن بعضا ممن التفتوا لهذه الآفاق قرروا أيضا أن يدخلوا في اللعبة، وأن يمارسوا مناوارتهم، فتكونت ظاهرة المليشيات الإلكترونية التي تكونها بعض الجماعات لتظهر للناس بأن رأيها هو السائد والمسيطر، وببعض الأخطاء الالكترونية والاستعجال في إخراج الآراء جرى اكتشاف هذه الآلية، ولم يعد ممكنا في أوقات كثيرة متابعة الثقل الحقيقي في بعض القضايا، ليتحول الموقع الافتراضي من صورة (وإن كانت محسنة) عن الواقع، إلى مجرد وسيلة لإحكام السيطرة على الواقع بكل ميله للسلطوية والسيطرة.
الفضاء الإلكتروني لم يعد مجرد مكان للتسلية، وإنما عالما متكاملا يجب على الجهات العلمية والأكاديمية وحتى أجهزة الدولة، أن تدرسه وأن تتفاعل معه، وهذه الدراسة تتطلب أولا الوعي بالعوامل النفسية والاجتماعية التي تحرك مواطني الفضاء الإلكتروني، والهوة التي تفصل بين الشخصي الحقيقي ومعه مجموعة من الضوابط القانونية لحقوقه وحرياته ومسؤولياته، وبين الشخص الافتراضي، وطبيعة نظرته لكل هذه العوامل، فالافتراضي يتصور أن العالم الإلكتروني هو ملكية خاصة، ويعطي لنفسه حقوقا إضافية على أساس أنها فرصته لممارسة التمرد الشخصي على جميع القوانين والأطر، ولكن يجب على الجميع أن يعمل على تحديد حقوق الشخص الافتراضي وأن يرسم فضاء حريته، وأن تمارس المواقع نفسها، بصفتها السلطة الواسعة على الافتراضيين المنتسبين هذه القضايا من خلال التذكير الدائم بالقواعد الأخلاقية لأي ممارسة يقوم بها المستخدمون في هذه المواقع.
علوم النفس والاجتماع والإعلام الافتراضية، مجالات صعبة، خاصة أن بعضا من الازدواجية يسود المستخدمين، وليس يمكن الدراسة سوى بتوفير تمويل كبير وتنسيق واسع بين المؤسسات البحثية  لتفهم طبيعة العلاقات والمواقف التي يجري اتخاذها بصورة فردية أو جماعية على المواقع الإلكترونية، ولكن ذلك ضرورة ملحة، فمواقع التواصل الاجتماعي لعبت دورا كبيرا في وصول  الرئيس الأمريكي الحالي إلى البيت الأبيض، كما أنها كانت الوسيلة التي نقلت شرارة الربيع العربي من بلد إلى آخر، وتداخلت في إدارة الثورة بعقل جمعي دون أن تكون لها قيادة على الأرض، وكذلك كانت موجودة في الاضطرابات الواسعة في بريطانيا وايران واليونان خلال العامين الماضيين، ومن المناسب، أن يتم التذكير مرة أخرى، بأن هذه المواقع بم تعد مجرد أماكن للتسلية فقط، وإنما حياة موازية بالكامل يجب أن يجري فهمها وتنظيمها لتجنب تقاطعها مع الواقع بصورة تخريبية ومدمرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com