الأحد، 20 يناير 2013

حكايات الآباء والأجداد: وسيلة للتسلية وتنمية خيال الطفل


منى أبو صبح

عمان- أسرع الأحفاد الثلاثة لغسل أياديهم بعد طعام العشاء، والتفّوا حول جدتهم يطلبون منها أن تروي لهم "حكاية" كما كانت تفعل جدتها. بدت السعادة والفرحة غامرتين على وجه الجدة، لكنها وجّهت سؤالا لأحفادها "أليس لديكم تلفاز وكمبيوتر يغنيكم عن حكاياتي؟ لكن الأطفال لم يكبتوا تلهفهم لسماع حكايات الجدة وتعالت أصواتهم قائلين: "نريد حكاياتك أنت، فهي الأجمل". ضمت الجدة أحفادها ونثرت "غطاءها الشتوي" على أرجلهم، من حول المدفأة، وبدأت تقص الحكايات على أحفادها الصغار الذين امتلأت أعينهم بالتأمل والتعطش لسماع الأحداث ونهايتها بلهفة ونفاد صبر.
تقول الحفيدة دانة (11 عاما)، "أحب سماع قصص وحكايات جدتي دائما، وحتى لو أعادت بعضها لا أشعر بالملل في ذلك، وأحيانا أطلب من والدتي أن تروي لنا إحدى الحكايات القديمة، لكنها لا تتقنها كما تفعل جدتي، وأصارحُها بهذا".
إن الحكايات التي ترويها الجدات لأحفادها، أو الأم لأبنائها قبل النوم، تمنحهم المتعة والمرح، نظرا لبساطتها وجمالية سردها؛ فهي وسيلة تربوية تقوّي قدرات الطفل على التواصل مع الآخرين، وتنمي خيالهم وتوطد تركيزهم وانتباههم بالأشياء، وتفجر طاقتهم الكامنة على استيعاب الحياة، وعلى تنمية وتوسيع وعيهم بالذات.
تشتمل الحكايات على عناصر عديدة، كالصوت والحركة، والشخصيات والمعلومات التاريخية، والعناصر الواقعية والخيالية، والرموز والأحلام. وتنتقل عناصر الحكاية هذه لأذهان الطفل تجعله يبحر بخياله إلى آفاق واسعة، فيستفيد مما تلقنه له الحكاية من عبرة وموعظة ودروس ونصيحة. 
وتعبّر أمّ براء (36 عاما) عن رأيها قائلة: "إن الفوائد التي يحصل عليها الطفل من القصة، أو الحكاية كثيرة جدا، فهي تمنحه الكثير من المفردات والكلمات والمعاني، وتساعده على التفاعل والتجاوب مع ما يكتشفه من تجارب الحياة، حيث تعطيه أفكارا خيالية تساعد في تنمية شخصيته، وتمنحه طاقات جديدة تنمي قدراته على التواصل مع الآخرين والتحدث بطلاقة".
وتضيف أم براء في السياق ذاته: إنني أحكي وأقرأ القصة لطفلي، وقد عوّدته ذلك كي أزرع في نفسه التعاليم الصحيحة التي أريد أن أرسخها في نفسه، وأعتقد أن الأم التي لا تقرأ القصة لطفلها مقصرة ومُخطئة في حق أطفالها الصغار، وليست انشغالاتها اليومية مبررا لهذا التقصير".
وفي هذا الشأن يبيّن الاختصاصي النفسي د. خليل أبو زناد، أن قراءة القصة المفيدة على مسامع الأطفال لها تأثير إيجابي كبير في تنمية شخصية الطفل، إلى جانب ما توفره له من شعور بالطمأنينة والدفء والحنان أثناء سماعه القصة، ناهيك عما تزرعه وتحثه في نفسه من مواهب كامنة. 
ويضيف خليل "تقوي القصة أو الحكاية الإدراكَ لدى الطفل بحسب مضمون القصة التي يستمع لها ومدى ما تثيره من تشويق وتفاعل في نفسيته، إذ تجعل خياله واسعا خصبا، ولذلك يجب على الأم أو الجدة توظيف هذه الوسيلة التربوية المتاحة، لزرع القيم والمبادئ السمحة في ذهن الطفل، من خلال ما تحمله القصص والحكايات من قيم خالدة يستطيع الطفل أن يستسيغها ويستمتع بها بواسطة هذه الوسيلة البسيطة الممتعة".
ويعتقد خليل أن القصة تسهم في حث الطفل على العمل الجيد، إذ إن الطفل سريع التأثر بالمحيط الخارجي، سلبا وإيجابا، ولذا فإن القصة الجيدة سرعان ما تؤثر على نفسية الطفل، علما بأن الأطفال يقلدون كل شيء يسمعونه، ومن أقرب الناس إليهم أوّلا. 
ويرى خالد سمعان (42 عاما) أن الهدف من القصة التي تُروى للأطفال، سواء قبل النوم، أو في أوقات أخرى، هو توسع خيالهم الخصب، فضلا عما تدخله إلى نفوسهم من بهجة، وهي فوق ذلك تمنحهم القدرة على التمييز بين الشر والخير، وتساعدهم على تنمية ملكة التركيز والانتباه أثناء سرد القصة لأن القصة في العادة تشد انتباهه فتجعله يسأل عن الأحداث وتفاصيلها، ويطلب سماعها مرة أخرى لما تثيره في نفسه من متعة وفائدة. 
ويبيّن استشاري الاجتماع الأسري د. مفيد سرحان أن القصة من أكثر الوسائل تأثيرا في شخصية الطفل، لأنها تجلب الانتباه، وتشد الطفل، وتؤثر في أعماق ذاته، فتبقى راسخة فيه. وقد أكد أن أثر القصة من خلال الاستماع إليها أكثر وقعا من قراءتها، خاصة إذا جاء السرد بلسان كبار السن والأجداد والجدات.
إضافة إلى أن القصة وسيلة للمتعة والتسلية. وهي قبل ذلك كما يقول سرحان، وسيلة للفائدة والتربية والتوجيه، إذ إن كثيرا من الناس يحفظون قصصا استمعوا إليها من جدّ أو جدة، وبالإضافة إلى ذلك فالقصة وسيلة مهمة لتوطيد الترابط الأسري، وتوثيق العلاقات، وزيادة المحبة بين الأبناء والأجداد.
ويعتقد سرحان أنه لا بد من الاهتمام بهذه الوسيلة التربوية، وخصوصا في أوقاتنا هذه التي أصبحت تتسم بضعف العلاقات، واعتماد الأطفال والأبناء على مصادر متعددة للتلقي، كالإنترنت والقنوات الفضائية التي ربما توفر شيئا من المتعة والفائدة لكنها تفتقد إلى البعد الاجتماعي الذي يربط الأطفال بالكبار.
وينتظر الطفل صالح الحسبان (12 سنة) مجيء يوم الجمعة بفارغ الصبر، حتى يتمكن من زيارة جدته في منزلها، لتقص عليه شيئا من الحكايات الشعبية والأساطير القديمة.
ويقول الطفل صالح "ألتف وأشقائي وأولاد عمي وعمتي حول جدّتنا، وتبدأ جدتي بسرد الحكاية بأسلوب رائع لا يتقنه سواها، وسرعان ما تغضب إذا بدأنا بالتهامس فيما بيننا في أمر ما، فتصفق بيديها حتى نصغي إليها وهي تردّد "صلوا على النبي".
ويذكر الطفل مراد عطية (10 أعوام) العديد من القصص والحكايات الجميلة التي سمعها من والدته أو جدته فحفظها عن ظهر قلب، ولا يشعر رغم ذلك بالملل إن كررها مرّة ومرات لفرط إعجابه بها وتأثره بها، مثل حكاية "الشاطر حسن، ست بدور، والصياد الماهر، وعلي بابا والأربعين حرامي، ومصباح علاء الدين"، وغيرها من القصص الرائعة".
ويشير خبير التراث نايف النوايسة إلى أن الحكايات الشعبية تندرج تحت موضوع الموروث الشفاهي الشعبي، وبحسب تصنيف منظمة اليونسكو فهو من التراث غير المادي. وقد عرفه العرب قديما تحت باب "القصص والخرافات والأساطير"، وهو يندرح اليوم في باب "الحكاية الشعبية" التي تضم الخرافة، وحكايات الجن، والغيلان، وحكايات الحيوانات، وحكاية الجدات، الخ.
وفيما يتعلق بموضوع حكاية الجدات تحديدا يقول نايف النوايسة "إن هذه الحكايات كانت قديما تتم من خلال الجدة الكبيرة، حول موقد النار، وفي الأجواء المعتمة. وكانت تسرد على الأطفال بعض القصص من باب التسلية، أو من باب ضرب الأمثال، ونماذج من الأبطال والرموز التي تريد "الجدة " أن يتحلى الولد أو البنت بخصال وأخلاق أبطال وبطلات تلك القصص".
ويضيف النوايسة "كان ذلك دارجا لفترة، ومع انتشار التكنولوجيا أخذت حكايات الجدات بالاختفاء، وهذا ما يؤسف له حقا، ونحن نعلم أن كثيرا من البيئات العربية كانت تقيم جلسات "الحكواتي"، ولكن هذا النمط من الحكايات الشعبية اختفى اليوم، أو كاد، والسبب هو تطور التكنولوجيا التي أبعدت الجيل الجديد عنها تحت سحْر الوسائل الجديدة.

muna.abusubeh@alghad.jo

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com