الخميس، 31 يناير 2013

لمن النصر ... للسالب أم للموجب ؟

صورة

إبراهيم كشت-ملاحظة مسيرة الوجود ، ومجريات الحياة ، وطبائع الأشياء ، تدلُكَ للوهلة الأولى على أن الجانب السلبي في كل ما حولنا أقوى وأفعل وأسرع وأشد تأثيراً من الجانب الايجابي، فانظر مثلاً إلى ذلك (الفيروس) الذي لا يرقى ليكون كائناً حياً كاملاً ، ولا يملك قدرة التكاثر بذاته ، ولا تمكن رؤيته إلاّ بعد تكبيره مئات المرات ، ورغم ضعفه الظاهر هذا وقلة حيلته ، فإنه (ككائن يمثل الجانب السلبي في آثاره وأفعاله) قادر على أن يفتك بالإنسان ، بما يسببه له من اعتلال في الجسد أو هلاك تام ، ناهيك عن قدرته على الانتشار بعدواهُ لينال من سلامة وصحة ملايين الناس بوسائل شتى ، ثم تكاد تعجز أمامه كثير من السبل (الايجابية) في الوقاية والعلاج ، والتي يبذل فيها الإنسان الجهد والوقت والمال ، ويُسخِّر لها علمه الواسع وذكاءه العظيم .
وخذ مثلاً آخر ، تلك المباني الشاهقة التي يقضي الإنسان في بنائها سنين عدداً ، ثم تكفي دقائق قليلة لكي تجعلها المتفجرات ركاماً .. !  وبمقدور موجة المدّ البحرية (التسونامي) أن تحصد أرواح ثلاثمائة ألف إنسان ، وتشرد الملايين ، وتحطم قراهم ، في أيام معدودات ، وبمقدور الفقر والجهل والمرض أن تؤدي لوفاة آلاف الأطفال في العالم كل يوم . حتى على مستوى الثقافة والفكر والعلم ، فإن الخرافة أسرع انتشاراً وأكثر توارثاً من العلم ، والسُّخف والتفاهة أكثر تقبلاً من الفكر الرصين ، والفنّ الهابط يلقى إتباعاً أكثر من الفن الرفيع ، بل إن العلماء والمفكرين والأدباء أقل حظاً وثراء وشهرة وقبولاً لدى الناس من المطربين و أكثر الراقصات إبتذالاً  والشائعات أقرب للنفوس وأكثر إثارة للاهتمام من الحقائق ، وبريق القشور أكثر لمعاناً من جوهر الأمور  !

 يظهر السالب عادة أسرع من الموجب وأقوى 
أرأيت إذن – من خلال الأمثلة المتقدمة -  كيف أن الجانب السلبي يفوق بقوته وسرعته وتأثيره الجانب الإيجابي ؟ إنها قصة التفاحة الوحيدة المتعفنة التي تستطيع أن تفسد مائة تفاحة صالحة إذا وضعت بينها ، لكن التفاحات المائة الصالحة لا تستطيع أن تصلح حال تلك التفاحة الوحيدة الفاسدة ، وإنها الحياة ، وإنه الوجود ، يظهر فيهما السالب أقوى وأمتن من الموجب ، حتى في الرياضيات إذا ضربت السالب بالموجب كانت النتيجة سالبة . غير أن كل ذلك يمثل ظاهر الأمر وسطحه ومشهده للوهلة الأولى ، فلو كان الجانب السلبي أقوى من الجانب الايجابي في الكون والوجود بشكل مطلق ، لما استمرت الحياة ، ولما تطورت ، ولما ظلت تسير نحو الأحسن .  

لا تخدعنّك قوة الجانب السلبي 
رغم كل هذه القوة الكامنة في ما هو سلبي وقاتل ومدمر وشرير ومؤلم ، فإننا إذا قارنّا حياة الإنسان قبل مائة عام (ولا أقول مائتين أو ثلاثمائة أو ألف أو عشرة آلاف عام ) بما هي عليه الحياة الآن ، لوجدنا الحال اليوم أحسن بكثير ، فمتوسط الأعمار تضاعف ، والأوبئة والأمراض المعدية قلت بشكل كبير، والدخل ارتفع ، والفقر قلّ ، والعلم زاد انتشاراً ، والاختراعات سهّلت الحياة ، والعلاجات خففت الألم ، ووسائل الاتصالات والمواصلات مكّنتْ الإنسان من الوصول للمكان والمعلومة بأجزاء من الزمن الذي كان يستغرقه الأمر قديماً ،  إن نظرة بسيطة لتاريخ الدول قبل مائة عام يدلنا على أن معظمها كان مستعمراً لدول أخرى ، وكانت العبودية والرقّ لا تزال منتشرة ، وكانت الحرية والديمقراطية والسلام والمساواة أقل مستوى مما هي عليه الآن بكثير (حتى لو أصرّ البعض على أنها كانت أيام خير وبركة) ، أو أنها أيام الزمن الجميلِ ولو أني تصورت حياة جدّ جدي لرأيته يسكن بيت شعر أو بيتاً من الطين ، لا يقرأ ولا يكتب ، معظم معتقداته خرافية ، يدفع الضرائب بتهديد السوط ، يشارك في الغزو أو يكون ضحيته ، ينتشر مرض فيُبيد نصف قريته ، لا سيارة ، ولا كهرباء، ولا ماء في أنابيب، ولا تدفئة بغير الحطب ، المسافات بعيدة ، والطبيعة متحكمة بالحياة والرزق بكل ظروفها ، أما حال زوجته فهي أشد سوءاً : قمع وتهميش وتوالد مستمر ، وموت عدد من الأبناء عند الولادة أو الرضاعة ، عدا عن ضنك العيش نتيجة كثرة العيال ، وتردي الحال، وتزايد الأعمال .

الغلبة في النهاية للجانب الايجابي
إن هذه الاستمرارية في الحياة ، وهذا التطور فيها ، يشير بحزم إلى أن الغلبة في النهاية للجانب الايجابي ، رغم القوة الظاهرة للجانب السلبي ، وتفسير ذلك وفقاً لما أعتقد ، هو أن الجوانب السلبية من الحياة والوجود ، بكل قوتها وتأثيراتها ، إنما تعمل في خدمة الجانب الايجابي ، أعني أنها تعمل على أساس حثّ الناس والأحياء على تكيّف أفضل ، وعلى البحث عن تحسين اقتدارهم على مواجهة الطبيعة والظروف المختلفة ، إنها تُخضعهم لأهم قوانين الكون والحياة ، والمتمثل في أن البقاء للأكثر قدرة على التكيّف .  وكلما تحسّنت سبل هذا التكيّف وأشكاله ودرجاته كلما استمرت الحياة ونمت وتطورت ، ولو أن الوجود كان يسمح ببقاء القادرين على التكيّف وغير القادرين عليه (من الناس والأحياء والأشياء) ولو لم تكن الحياة تستخدم أسلحتها السلبية ، لانتهت الدنيا من زمن بعيد .
 
Kasht97@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com