الأربعاء، 20 مارس 2013

الحَـفْرُ في النُّحاسِ ... أَمْ في نُفوسِ الناسِ ؟!


صورة


إبراهيم كشت - شعره طويل لزج متلبّد، كثرت البثور والقشور عند جذوره، وشواربه كثيفة، غير مشذّبة ولا مهذّبة. أمّا لحيته فقد نبتت كأشواك صغيرة، حتّى لتحارُ فيها أهي طليقة أم حليقة ..!
يرتدي بذلة سوداء مجعّدة ، وتتدلّى من عنقه ربطة معقودة بصرامة ، وفي إصبعه خاتم ذهبيّ غليظ، يبرق لمعانا، ويلفت انتباهك إلى إظفر خنصره، الذي تركه ليسترسل طولاً بدون مبرر .
حين دخلتُ مكتبه حييته، لكنّه لم يردّ التّحية، لا بمثلها ولا بأحسن منها، وظلّ منكبّا على الأوراق بين يديه، دون أن يتلطّف حتّى بالنّظر إليّ. ورغم زعمي الدّائم بأنّي شديد الثّقة بنفسي، إلاّ أننّي أحسست بالتّضاؤل إزاء هذا الازدراء والتّجاهل، فاعتراني شيء من الارتباك، لكنّني تمالكت نفسي، فغالبت تلبّكي، وقلت بأدب متكلّف :
- أرجو أن تجري لي اللازم في هذه المعاملة .
لم يرفع عينيه أيضاً، لكنّه أشار بيده إلى المكتب المقابل، وقال باختصار متعجرف :
- هناك .
- لكنهم أخبروني أن المعاملة يجب أن تمرّر عليك أوّلاً .
- هات .
أمسك ملفّ المعاملة بيده، ولوى شفتيه بامتعاض وتأفّف، ثمّ قلّب بعض أوراقها بسرعة، كأنّ به شعوراً بالقرف منها و منّي، وكتب على ظهرها بخطّ رديء « الآنسة خديجة لإجراء اللاّزم « ثم أشّر عليها بما يشبه التّوقيع، وقال بصلف وجفاف :
- عند خديجة، هناك .
فقلت كأنّني أتودد له :
- كنت أودّ أن أسألك فقط ….
- أَتُريدُ أن أترك عملي وأتفرّغ لك ؟ ألا تراني مشغولاً بأمور مهمة ؟
- ومعاملتي عمل مهمّ كذلك .
وما كادت تفلِتُ من لساني هذه العبارة الأخيرة، حتى انتفض الرّجل، كأنّني دُستُ على طرف قدمه بحذاء ثقيل، فضرب الطاولة بباطن كفّ يده، وقال بصوت خشن يشبه الخوار :
-    وهل تعلّمني شغلي ؟
لبثت لحظة واجماً في جمود، ثمّ وبحركة شبه لا إراديّـة تقهقرت خطوتين منتظمتين إلى الوراء، كأنّي جنديُّ صغير في حضرة قائد عظيم، وخرجت من عنده ملوماً مدحورا .
********
توجّهت نحو المكتب الّذي تجلس فيه خديجة، و ما زالت في نفسي بقيّة من توجّس وخيفة جعلاني أقدّم رجلاً و أؤخّر أخرى، حتّى ولجتُ المكتب متردداً، ونظرت إلى « خديجة « فوجدتها مشغولة بحديث هاتفيّ ينمّ انهماكها فيه عن أنّه حديث مطوّل.
تبدو خديجة في الهزيع الأخير من العقد الراّبع من عمرها، وقد صبغت شعرها بلون أشقر فاقع، يلفتُ الناظرين ولكن لا يسرّهم، وزيّنت عينيها بكحل امتدّ إلى طرفهما بأكثر مما يجب، وطَلَتْ وجهها بمساحيق تعالت طبقة فوق طبقة، دون أن تستطيع إخفاء الأخاديد التي بدأت السّنون تحفرها في إهابها وعلى جبينها ووجنتيها.
امتدّت مكالمتها، وتشعّب حديثها، وراحت تصف ألما أصاب ظهرها، ودواء لم ينفعها، ووصفة شعبيّة خففت وجعها. وأنا انتظر محدّثا نفسي: خلف معالم وجهها المتداخلة، ووراء عينيها المنطفئتين، ونبرة صوتها العالية، وحديثها المتكلّف الذي أسمعه، بما فيه من تذمّر وتطيّر وحنق على الحظّ، خلف كل ذلك كثير من الإحباطات والصراعات والكبت والعقد، التي كان تحدّث عنها « فرويد « ، فكذّبه كثير من الناس . لكن بغضّ النظر عن تشكيلتها النّفسيّة، ورواسب أمسها في قعر نفسها، ومشكلاتها الّتي تجهر بالشّكوى منها على الهاتف، لا بدّ لي من الانتظار..!!

وبعد طول صبر منّي، وطول تلكّؤ منها، فرغت من حديثها الممطوط، فوضعت السمّاعة، والأساور الذّهبيّة تخشخش في معصمها كأنّما تهمس للنّاظر أن صاحبتها قد ادّخرت جُلّ دخلها فيها. ثمّ قالت لي بصوت عال ذي طنّة ورنّة:
-    نعم ؟ !
وقع صوتها في أذني كأنّه رنين قطعة نقد معدنيّة سقطت من عَلٍ على رخام أملس صلب ، فقلتُ كالمذعور:
-    هذه المعاملة حوّلت إليكِ من السيّد رئيس القسم .
فتناولتها بنزق، وأخذت تقلّب أوراقها، وتقرأ بعض ما خُطّ فيها بتثاقل وملل، وهي تضع إبهام يدها اليمنى في فمها كلّما قلبت صفحة. ثمّ شخطت بقلمها ذي الحوافّ المتآكلة على الطّوابع الملصقة، وقالت بنبرتها الحادّة الصادرة عن أوتار صوتها النّحاسيّة:
-    راجع الديوان بعد ساعة .
-    لكنني غادرت عملي منذ فترة ، وأنا على عجل .
فردّت بغضب كأنّ بيني وبينها عداءً وجفاءً .
-    ماذا أفعل لك ، « ها « ؟
ولفظت هذه ألـ « ها « بنبرة مفخّمة غليظة كأنّها تقلّد صوت رجل، ودفعت بالمعاملة إلى الجانب الآخر من مكتبها، ثمّ عادت وأمسكت سمّاعة الهاتف من جديد. وانفرجت شفتاي كمن يريد أن يتكلّم، لكنّني أطبقتهما مؤثراً السّلامة، ولم أجد بُداً من الإذعان .
********
وحين رجعت إلى الدّيوان بعد ساعة ، لمحتُ من بين الموظفين شابّا صغيراً، بدا وسيما ذا ملامح رقيقة مرسومة ، وبدت ملابسه وهيئته أكثر أناقة وذوقاً من زملائه. كان يجلس صامتا ساهما، ويلوّح بسلسلة معدنيّة في يده. تفاءلتُ به خيراً، فتقدّمت منه وقلت وأنا أتحرّى اللّطف:
-    أمرتني الآنسة خديجة أن أراجعكم بعد ساعة في معاملتي، و ..
قاطعني وهو يجيب ببرود ورخاوة وفتور قائلاً: -    لم يردنا شيء من خديجة .
-    لكن …
-    إرجع غداً .
-    معاملتي مهمّة وعاجلة .
أجاب بنفس البرود وهو يلوّح بالسلسلة بيده ، بينما خَلتْ أسارير وجهه من أيّ معنى ، عدا ما تعبّر عنه رخاوة شفتيه:
-    إذهب عنّي ، معاملتك ليست لديّ .
ما أسمج برودته – قلت في نفسي – ليس ثمّة أقبح من الهدوء حيث يكون متكلّفاً .
خرجت من عنده مفعماً بالإحباط ، أغالب ثورة مكتومة في نفسي ، ودبيب الغضب المكظوم يسري في أوصالي . وذاتي تقول لذاتي : ماذا لو انقلب إحباطي إلى عدوان ، فصرخت وولْولْتُ وهدّدت ، . . لكنّي تداركت حديث نفسي قائلاً بدون صوت : الحكمة . . الحكمة ، فلن تكون النّتيجة إلاّ مزيداً من التّأخير والإعاقة وتعقيد الأمور . . فأكون الخاسر في المحصّلة .
رجعت إلى خديجة ، اصطنعت ابتسامةّ وقلت كالمعتذر:
-    لم أجد المعاملة في الديوان .
فتساءلت بصوتها النّحاسيّ إياه:
-    وما ذنبي ؟
-    قلتِ لي أن أراجعهم بعد ساعة ، وقد فعلت ولكن . .
-    أرسلت معاملتك ولا دخل لي بها بعد ذلك .
-    وأين أبحث عنها ؟
-    في الأرشيف، أو عند رئيس القسم، أو عند الطابعات، أو في كفتيريا الشاي والقهوة إن شئت !
********
أدرت ظهري، وتوجّهت نحو باب الخروج ، لا ألوي على شيء ، وفجأة انتبهتُ الى لافتة نحاسية كبيرة ، عُلِّقتْ على الجدار عند باب المؤسسة ، وحفرت عليها عبارات إنشائية جزلة ، تتحدث عن رؤية المؤسسة ورسالتها وقيمها ، فتبسمتُ وتمتمتُ بصوت يكاد يكون مسموعاً : يبدو أن حفرَ الكلمات على لوحة نحاسية أسهل بكثير من حفر المعاني في لوحة العقول والنفوس ، والمشكلة دائماً أن ثقافة العمل والتعامل تتكون من معاني وليس من كلمات ..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com