الخميس، 28 مارس 2013

حين تتقطّع بيننا خطوط الاتصال !


صورة


إبراهيم كشت: مثل نداءات الباعة في أسواق الخضار وهم يحرّضون الجمهور على الشّراء، تتعالى أصواتهم لتختلط بصخب المشترين في مساوماتهم، ثمّ تمتزج بهدير السّيارات، وزعيق أبواقها النّاشز، لتتوحّد بعد ذلك مع ضوضاء المدينة وجلبتها ، هكذا عَلَتْ أصواتهم وتشابكت وتداخلت.  
فلو أنّك جلست خارج إطار اجتماعهم لترقبهم، إذن لتراكض اصطخابهم داخل تجاويف رأسك، ولما استطعت أن تميّز من بين مجموع الأصوات المشوّشة كلماتِ عبارة واحدة ، فضلاً عن معناها ، ولو حاولت تمييزها، لكنت كمن يتتبّع خيطاً في كومة صوف ملتفّة متشابكة ، لا تجد لها بداية فتماشيها ولا نهاية فتنتهي إليها.
قال أحدهم بصوت خشن أجشّ يشبه أنكر الأصوات:
-إسمحوا لي بجملة مفيدة واحدة  يا أخوة اسمحوا لي فقط أن أقول
أسرع زميله الجالس على كثب منه ليقول والكلمات تخرج من فمه متعجّلة كأنّها تتسابق :
-أنا لم يصلني تبليغ بهذا الاجتماع، ولولا أنّي علمت به صدفة
قاطعه من زاوية قاعة الاجتماع من قال بصوت مخنوق:
-دعونا من هذا، ولنبدأ العمل، مع أنّي لم أفهم هدف الاجتماع من خلال المذكّرة الّتي وردتنا بشأنه، فهل سنناقش
قال أحد الحاضرين بنبرة غشيها الملل والفتور والتّراخي :
-سنناقش شكاوى عملاء المؤسّسة ، على ما أظنّ ، وسوف
تقلّص وجه مدير الموارد البشرّية، وتحوّل شكله إلى علامة تعجّب كبيرة، ثمّ انتفض، وقال بلهجة فيها ما يشبه العربدة :
-ألم يكن من الأَولى أن نناقش شكاوى الموظفين ؟ أم أن العملاء هم الأهمّ في نظركم . هل الغريب أولى من القريب ؟
وقال زميله بنفس الّدرجة السابقة من الرّخاوة:
-ما رأيك أن نجعل موضوع هذا الاجتماع مخصصاً لبحث من هو الأهم : الموظف أم العميل ؟
دقّ رئيس الجلسة على طاولة الاجتماع بيده في حدّة وعصبيّة، وحين سكت الحضور برهة، وساد  شيء من الصّمت ، قال:
-لنبدأ بمناقشة أوّل شكوى.
تنحنح مقرّر الجلسة، وقال دون أن يرفع عينية المحدّقتين في الأوراق الّتي بين يديه:
-الشكوى الأولى تقول
اهتزّ مدير التّسويق كأنّما مسّته الكهرباء ، ثمّ وقف وقال معترضاً بصوت مرتعش:
-أما زلتم تقولون شكاوى العملاء، لم أكن قد سمعت بمثل هذه الشّكاوى من قبل ، لقد كان الأجدى أن تطلعوني عليها، لا أن تظلّ محصورة بيد مقرر اللّجنة، ليناقشها على الملأ، والله
فقال رئيس اللّجنة بعد تأفّف وامتعاض:
-يا أخي، لقد أرسلنا لك كتاباً بمضمون كلّ الشّكاوى، وهذا هو رقمه وتاريخه إن شئت، إنّه يحمل الرّقم
عاد مدير التّسويق يقول بغضب يعتريه نزق:
-لم يصلني كتابكم، نعم لم يصلني، مع احترامي لكلّ الأرقام والتواريخ، فالحقيقة
وهنا قالت الموظّفة الوحيدة الّتي تحضر الاجتماع، وهي تنقر الطّاولة بأصابعها في توتّر باد:
-أرجوكم، مضى نصف وقت الاجتماع، ولم ندخل إلى مضمونه، تهدرون الوقت في المقارعات، فنضطرّ للبقاء مجتمعين بعد ساعات الدّوام، لا أستطيع أن أتأخّر  أرجوكم
وأعارها الجميع أذنا صمّاء، ثمّ عاد رئيس الجلسة ليخاطب مدير التّسويق قائلاً :
-لكنّني طرحت عليك أيضا بعض الشّكاوى شفاهة، حين كنت في مكتبي أول أمس، حيث قلت لك
قال مدير التّسويق وهو يؤشّر بيديه في حركات مبالغ فيها :
-لا أذكر، لم أسمع، كانت الهواتف ترنّ في مكتبك كلّ لحظة، فتُقطّع حديثك أشلاء متناثرة، أمّا أنا فقد كان ذهني مشغولا بأمر آخر، بصراحة لم أكن منصتاً إليك .
قال أحد الحاضرين بنفاد صبر واضح :
-يا إخوان، كفى، ما هي أوّل شكوى، أعتقد أنها حول
وقال آخر كان قد جاهد طويلاً كي يتحدّث:
-إتّصل بي أحد العملاء قبل أيّام، واستطعت أن أميّز من نبرة صوته أنّه يشكو من أمر ما، دون أن أفهم مضمون تذمّره، ربّما كان يشكو من .
فقال مقرر الجلسة مستاءً:
-لماذا الاستباق، سأقرأ عليكم الشّكاوى مرتّبة، الشّكوى الأولى من العميل « شاكر عرفان « يشجب فيها ويندّد ويستنكر تأخّر مؤسّستنا في تقديم الطّلبيّة بموعدها .
هبّ مدير المبيعات وقد نفرت عروق رقبته، وخرجت سهام حادّة من عينيه، وصرخ قائلاً :
-ما لكم ، كيف تفهمون ؟  أنتم لم تستوعبوا رسالة العميل ، إنّ الكتاب الذي أرسله « شاكر عرفان «، يتضمّن كلمة شكر على تبكيرنا في تسليم الطّلبيّة، ويذّمّ المؤسّسة المنافسة، الّتي درجت على التّأخر في التّسليم.
قال رئيس الجلسة و مقرّرها بصوت واحد:
-ها ؟ نعم ! ربما كان هناك سوء فهم .
فقال مدير المبيعات بعد أن ابتسم ابتسامة النّصر:
-هاتوا الشّكوى الثّانية إذن .
وأسرع رئيس الجلسة إلى القول:
-الشكوى الثانية نحن متأكّدون منها ، وسوف . .
ثم سكت لحظة، وقاطع حديث نفسه، ليقول باحتجاج وعصبيّة وصوت جهير:
-» يا أبا محمد « « يا أبا محمد « ما تفتأ تنظر من النافذة مذ بدأ الاجتماع، هائماً بأفكارك في واد غير وادينا، مشتّت العقل كعادتك ، أفلا تصغي إلينا؟ ينبغي لك أن تشاركنا بعقلك وقلبك ولسانك . .

ثمّ انعقدت الضّجة مرّة أخرى، وعاد المجتمعون يتنازعون الحديث، وازداد الّلغو واللّغط والجدل، وارتفعت الأصوات أكثر من ذي قبل، و» أبو محمد « ما يزال ساهماً متأمّلا، محلّلاً لما يسمع.  وإذ استطال وقت الاجتماع أكثر مما يجب، أمسك بورقة وقلم، ودوّن بعض ما جال بخاطره من وحي ما لاحظ وسمع ، ثمّ قام من مقعده وسلّم الورقة إلى رئيس الاجتماع ، مُضى دون أن يستأذن.
صمت المجتمعون استغراباً، وتطلّعت عيونهم إلى رئيس الاجتماع تستوضحه عمّا تضمّنته ورقة أبي محمّد الصّامت الشّارد المتأمّل، فشرع الرّئيس يقرأ فحوى الورقة والكلّ منصتون:
« أيّها الأخوة، حين كان واحدنا صغيراً، كانت خطوط الاتصال بين أمّه وأبيه واهنة متهتّكة متقطّعة، وكانت لغة الحوار منفيّة من قاموسهما تماما، كان الأب « مُرسلاً « رديئـاً، لا يتحدّث إلاّ صراخا، ويشفعُ صوته العالي بحركات يديه الهمجيّة، وربّما كسّر أثناء الحديث بعض الأواني، وطرّق الأبواب، وخبط الأرض بقدميه. أمّا الأمّ، فكانت « مستقبلاً « لا يتطلّع أحد إلى استجابته، كانت تبكي، وتتمتم بأدعية، وتغمغم بشتائم لا يسمعها الأب ولا يلقي لها بالاً.
وحين كان واحدنا يتحدّث إلى أمّه بعد ذلك بحديث لا يروقها، تخلع النّعل من قدمها وترفعها في وجهه مهددة بها ، وربّما أمسكت بأذنه لتهرسها بين إصبعيها ، أو ربما ضربته بأي أداة تنظيف كانت تحملها في تلك اللحظة بيدها .
ثمّ كبرنا قليلاً ودخلنا المدارس، فكانت العصا أهمّ أدوات الإتّصال، وكان الحديث بين الزّميل وزميله ممنوعاً حتّى بعد انقضاء الدّرس، وإلاّ ضُربنا على باطن أيدينا وظاهرها وعلى مؤخّرتنا الصّغيرة، أو طٌلب إلينا أن نقف أمام زملائنا على ساق واحدة رافعي الأيدي إمعاناً في الذّلّ.
وكبرنا أكثر، وصرنا نحضر مجالس الرّجال، فأٌلقي في روعنا أنّ الأجشّ صوتا هو الأكثر رجولة، وأنّ الأعلى نبرة هو السّيّد بين الجالسين، وأنّ الإصغاء ضعف، والهرج من حقّ شيخ القبيلة وحده، فكبرنا وبنا شغف لأن نتحدّث دون استماع.
بقيت هذه الصّور راقدة في لا شعورنا، مترسّبة في قعر عقولنا الباطنة، تُوَجِّهُـنا نحو فنّ رديء من فنون الإتّصال، فيه كثير من الهشاشة والقطيعة، يقوم على إنكار الآخر، وتفضيل الجدل على الحوار، وتغييب الّلغة المتبادلة، وتُعلِّمنا إتّصالا مُختلِطاً بشتى ضروب التّشويش، ليس للإصغاء مكان فيه، وليس لفهم المُرسِل للمستقبِـل وتقدير ظروفه قيمة.
من أكبر مشاكلنا يا أخوة مشكلة الإتّصال، لقد تمسّكنا بشكليّات من التّطور، وقشور من مظاهر التّمدّن، واستوردنا وسائل التقنيّة بالباخرة والطائرة والقطار، ولا زالت الاتّصالات بيننا في المؤسّسات وفي المجتمع كلّه، أكثر بدائيّة من تلك الّتي كانت سائدة في العصور الحجريّة والصّخريّة.
يا أخوة ينبغي أن تكون اتّصالاتنا خطوط تواصل، لا خيوط عنكبوت وحبائل، فالإتّصال تمازج في الأفكار، وتداغم في الآراء، وتأثير متبادل، وليس اصطداماً بين الشّخصيات، ولا مسرحاً للصّراع يخرج منه أحد الطّرفين خاسراً أو ظافراً «.

Kasht97@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com