الأحد، 17 مارس 2013

صباح «الليل» يا عمان


صورة



سامح المحاريق -  ربما لا يوجد مدينة أخرى في العالم تعيش التناقض بين شخصيتها في الصباح والليل مثل عمان!.
 ..
في الساعات الأولى من الصباح ما زالت عمان تحتفظ بكثير من هويتها الأصلية، يمكن أن تتسرب إلى أنفك رائحة خبز الطابون من مخابز صغيرة، وتشاهد أطباقا من الفول والحمص يتخطفها بعض الزبائن الذين يعرفون أسرار كل محل ومذاق صنعته، وبعض هذه المحلات تغلق أبوابها في السابعة أو الثامنة صباحا بعد أن تكون بدأت البيع بعد صلاة الفجر مباشرة، هذه المحلات ما زالت موجودة في مناطق متفرقة من عمان الشرقية، باعة الكعك يرصون البيض المسلوق أو المشوي، مع مثلثات الجبنة وأكياس الزعتر، وينشغلون بتقطيع البندورة بينما البعض يقومون بخدمة أنفسهم ذاتيا، هذه المشاهد تكاد تختفي مع بدء الشمس في الصعود إلى كبد السماء، وقبل أن تأخذ الحرارة في فرض نفسها على ايقاع الشوارع.

طوابير
ومن هوية عمان الصباحية،  الطوابير التي تزدحم بطلبة الجامعات المتوجهين إلى جامعاتهم، بعضهم يجد فسحة من الوقت ليختطف فنجانا من القهوة، أو يقرأ سريعا عناوين الصحف لدى بعض الباعة دون أن يشتري أيا منها، وبينما ينتظر الطلبة باصاتهم بترقب وصبر يخالطه بعض الضجر، فإن آخرين ينسلون من الباصات القادمة من المحافظات الأخرى، ينظرون أفقيا للإطمئنان على عمان وصباحها، ويتوجهون مباشرة إلى سرافيس توزعهم على أنحاء المدينة، اختناقات في طرق اعتيادية وذات الانتقادات التي توجه كل مرة لمخططي الشوارع ومهندسي السير في المدينة، دون أن يتحقق شيء ملموس.
هذه الملامح الصباحية وغيرها الكثير، هي الهوية العميقة لعمان، هوية ما زالت عمان تحاول أن تحتفظ بها، تختلف قليلا عن أي هوية لمدن أخرى مشابهة لعمان مثل دمشق أو بيروت، وتختلف بصورة كبيرة عن مدن مثل بغداد أو القاهرة، ولكن عمان لا تلبث في الليل إلا أن تتحول إلى مدينة مهجنة، وتفقد هويتها، فالعالم يبدو وكأنه يمد رأسه ليقتحم شخصية المدينة، ومن كل طرف واتجاه على طريقته الخاصة، فمطاعم الوجبات السريعة تنتظر الظهيرة لتبدأ في تقديم خدماتها، عروضها الملونة وماركاتها العالمية تستقطب بعضا من الطلبة والموظفين، وكذلك تبدأ سيارات كثيرة في الخروج من كراجات البنايات، بعض من ملاكها يعبرون عن البرجوازية الجديدة لعمان، وهي مختلفة كليا عن البرجوازية القديمة التي كانت تفضل أن تبدأ أعمالها مع الصباح المبكر، وآخرون، هم من زوار المدينة الذين لا يمتلكون برنامجا يوميا محددا، ولم يعد موسم قدومهم لعمان مرتبطا بالصيف وحده، وإنما ممتدا على مختلف الفصول.

كانت   تنام مبكرا
كانت عمان مدينة تنام مبكرا، في الحقيقة كانت مضربا للمثل في هذه النقطة تحديدا، في الثامنة تكون المدينة شبه مغلقة، وتبدو لمن لا يعرفون بعض من أماكن السهر فيها، مغلقة تماما، ولكن الصورة تغيرت، فيمكن أن تتعثر في أزمة مرورية في منتصف الليل، وستجد شوارع مزدحمة بالمشاة وأرصفة تغولت عليها طاولات المطاعم بأطباقها وأراجيلها، ولكن قلة من أهالي عمان يبدون منشغلين بهذه الأمور، وإذا أضطر أحدهم للخروج في وقت متأخر فإنه سيصدم بالمدينة التي تختلف جذريا عن تلك التي يعرفها في الصباح، فأهالي عمان سواء كانوا في مواقع عملهم، أو على مقاعد الدراسة، لا يعرفون من هذه الحياة إلا ما يتعثرون به من وقت إلى آخر، ربما في عطلة نهاية الأسبوع، أو في مشوار اضطراري ربما إلى قسم الطوارئ في أحد المستشفيات، وهذه مسألة طبيعية لأن أهالي المدينة عادة ما يكون مرتبطين بروتين الحياة، ولكن ما يفوق الطبيعي هو مدى التناقض بين الصباح والليل في عمان، المدينتين المتزاحمتين بتقاليد متباينة يمكن أن تؤسس لحالة من الازدواجية في داخل المدينة نفسها، الغربة القائمة لأهاليها، فالمدينة يفترض أن تنتمي في النهاية لثقافتها، وأن تفصل الليل ليكون على قياسها وطاقتها على استيعاب مزاجاته ونزقه.

مهيئة لكل وقت
الليل ؛يجب ألا يفرض ذوقه ومنطقه على صباح المدينة، لأنه بذلك يتعدى على شخصيتها وهويتها وتماسكها، فالمدينة يجب أن تكون مهيئة كل صباح لأن تستأنف عملها، وإلا تحولت إلى مدينة خاملة، تحاول أن تجد فرصة لتلتحق بالليل وما يولده من تكاسل وتقاعس، وربما كانت المدن الأوروبية إلى حد كبير نموذج لما يجب أن تكون عليه المدينة التي تعمل للمستقبل، أما المدن الشرقية التي ما زالت محتفظة بأساطير الليل لتسوقه كوسيلة جذب للسياح والزائرين فإنها انكفأت على هذه الصورة التي تنتمي إلى ألف ليلة وليلة، ولا يمكن أن تصبح مدن متشوقة لمستقبل جديد، وعمان كانت منذ من البداية المدينة التي أخذت بعضا من تقاليد الريف لتصوغها في حلم مدينة عصرية، واليوم، تتوزع بين الشرق والغرب، ليس في اقتباس أفضل ما فيهما، للأسف عمان تأخذ الجانب المظلم من الطرفين لتتحول إلى مدينة ليست عالمية، وليست محلية، وإنما مجرد مكان أو فندق كبير..كبير، فأعيدوا لعمان صباحها وبعضا من ليلها لتتمكن من العمل بصمت وصبر، ولو ساوره القليل من الضجر.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com