الأحد، 23 يونيو 2013

الخصوصية.. وأعداؤها

صورة

سامح المحاريق  -  الخصوصية هي أحد الثوابت لدى مختلف البشر، فعادة ما يفضل الإنسان، على اختلاف الثقافات والأفكار، أن يحتفظ بمسافة معينة تفصله عن الآخرين، وهذه مسألة ترتقي في أهميتها إلى مرتبة الغريزة، ومن نزعة الإنسان للخصوصية أتت فكرة الملابس وضرورة الرداء، فالإنسان لا يحب أن يكون مكشوفا للآخرين لا على المستوى المادي ولا على المستوى النفسي، ويمكن أن نتخيل عالما لا يمكن للإنسان فيه أن يحتفظ بخصوصياته، أي عالم سينفتح على جميع احتمالات الصراع بين البشر، وسيغرق الفرد في مستنقع الكبت بصورة تجعله متوترا ومستعدا للاشتباك بصورة مستمرة.

 الحرية والعبودية 
على الرغم من أهمية الخصوصية، إلا أنها لم تتحول إلى قضية فكرية تستدعي الاهتمام والتأمل والتأطير إلا في مرحلة متأخرة، شأن جميع حقوق الإنسان الأخرى، وسبب عدم وجود الخصوصية يرجع أساسا لمفهوم الحرية والعبودية، وطبعا مفهوم الملكية، فالإنسان الحر كان يتصرف بخصوصيته بصورة كاملة وواسعة النطاق، والعبد في المقابل، لم يكن يمتلك ذاته، وإنما كان نفسه موضوع ملكية للآخرين، ولذلك كانت مساحته من الخصوصية تتحدد، ويمكن أن تتسع، أو تلغى نهائيا، بناء على تقدير مالكه، والمالك نفسه لم يكن واعيا لخصوصيته، لا يفهمها بصورة كاملة، أو أصلا هو غير مضطر للتفكير فيها، فهو يمارسها بحكم العادة، وبناء على وضعه الاجتماعي.
الخصوصية تطورت مع إلغاء الأنظمة العبودية، والاعتراف بالبشر كأفراد متساوين، ومع تغير شكل السلطة تجاه الدولة الحديثة، لم يعد بإمكان السلطة أن تدعي أي حقوق تجعل المواطنين مواضيع لملكيتها ونفوذها، وإنما حولتها إلى مؤسسة تقوم على خدمة المواطنين، وبالتالي، بدأ الإنسان يعي بأهمية خصوصيته، فالدولة الديمقراطية لا تتدخل في حياة الأفراد، ولا تشارك من قريب أو بعيد في صياغة قراراتهم الفردية، ولذلك فحقوقها في الحصول على المعلومات الخاصة بالبشر محدودة، وتكون في أضيق الحدود، ولغايات احصائية في الغالب.

 التعرف على الشخصية بالكامل 
اليوم تتعرض الخصوصية لهجمة كبيرة، يمكن تتبع أي شخص، والتعرف على شخصيته بالكامل، تفضيلاته، ذوقه، ميوله، وحتى أكثر الأشياء التي يخشى أن يتعرف عليها الآخرون، وحتى المقربين له، وذلك من خلال تتبع سلوكه على شبكة الانترنت، ما هي المواضيع التي يبحث عنها، أي الصفحات يفضل الدخول إليها، الوقت الذي يقضيه في هذه الصفحات، تعليقاته، رسائله البريدية، وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن يتم رصد الحوارات، التعليقات، التفضيلات، كل شيء تقريبا، وليس الأمر بحاجة إلى أشخاص ليقوموا بتحليل المعلومات التي يتعاطها الشخص مع جهازه (الشخصي، والشخصي جدا)، ويمكن لبرامج تحليل معلومات معقدة ومتشعبة المهام، أن تقوم بإصدار رسم كامل للشخصية، والأكثر من ذلك تاريخها، وربما التنبؤ بمستقبلها.
هذه المصائر لم تكن متوقعة من قبل، الخصوصية كان يمكن اختراقها بطرق فجة ومباشرة، كأن يقوم البعض بالتفتيش في الأوراق الشخصية للآخرين، أو أن يحاول مراقبتهم عن كثب، ولكن اليوم الإنسان الإلكتروني يقع أسيرا لمنظومة كاملة من احتمالية الانتهاك المنهجي والمستمر لخصوصيته، وعلى الرغم من أن شركات الانترنت تصر دائما على قيامها بحماية المعلومات الخاصة بمستخدمي المواقع الإلكترونية، إلا أن الفضائح تتوالى حول حدوث اختراقات لأسباب أمنية، وغيرها، أو نتيجة التعرض لعمليات القرصنة المتعمدة، وعليه فإنه لا توجد ضمانات لحماية الخصوصية الفردية في المستقبل، ومع تزايد حضور التكنولوجيا في حياتنا يبدو أن الخصوصية ستصبح مهددة على الدوام.
الخصوصية هي أحد تمثلات الضعف الإنساني، فكلما تزايد اتساق الإنسان مع ذاته، وتشابهت مواقفه المعلنة مع الأخرى المضمرة، وتوقف بصورة أو بأخرى، عن أن يحمل أكثر من قناع  للتعامل في الحياة، فإن حاجته للخصوصية ستصبح مقترنة بحاجاته الفسيولوجية الطبيعية، وليس أي حاجات نفسية، ببساطة لأنه لم يعد لديه شيء يخفيه، أو يرغب في عدم تعرف الناس عليه، وفي المجتمعات التي يسودها التسامح وقبول الآخر، يمكن أن تصبح الخصوصية محدودة للآخر، لأن الإنسان يعرف أنه لن يكون مدانا من حيث المبدأ، وأن مواقفه يمكن أن تفسر لصالحه، لا أن تتحول إلى أدلة ضده، فيمكن في ذلك الوقت أن تعتبر الخصوصية مسألة ليست على قدر كبير من الأهمية.
 التسلط على الآخرين 
المشكلة في الطرف الذي يعمل على انتهاك الخصوصية يرغب في استثمار الضعف الإنساني بصورة تمكنه من إحكام السيطرة وصولا إلى التسلط على الآخرين، وهو يحصل على قوة غير مشروعة بطريقة غير عادلة، ويحاول دائما أن يبحث عن مبررات أخلاقية لهذه العملية، ولكن انتهاك الخصوصية هو في حد ذاته أحد الجرائم الأخلاقية التي يجب أن يتم التوقف عندها بصورة كبيرة، والحل لتفويت الفرصة على الانتهاكات الخفية للخصوصية، هو تشديد العقوبات في حالات الإعلان عن خصوصيات أي شخص، فإذا كان تتبع الخصوصية وحصارها قائما لأسباب أمنية فيمكن أن يتم الرصد والمتابعة دون عمليات النشر والتعميم على غير أصحاب العلاقة، أما في حالات الانتهاك المتعمد به الأذى، أو المحتمل تحققه، ابتداء من الدخول غير المصرح به لهاتف محمول لأحد الأشخاص، وصولا إلى إدارة شبكة هاتف عملاقة، فإن العقوبة يجب أن تكون مشددة ومغلظة وفادحة، وهذه مسألة يجب أن تبدأ من قواعد التربية وتستمر في  التمثل والتطور لتنعكس في أحكام القانون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com