الخميس، 30 أغسطس 2012

هموم الذات والتحولات الاجتماعية بوصفها تكوينات بصرية

صورة

ناجح حسن - على نحو مفاجيء قرر المخرج الإيطالي العجوز ايرمانو اولمي 82 عاما العودة مجددا إلى الشاشة البيضاء بفيلمه الجديد المعنون (كيف أرى مستقبلي)، الذي يشارك فيه ضمن العروض الخاصة لفعاليات الدورة التاسعة والستين لمهرجان فينيسيا السينمائي التي انطلقت أمس الأربعاء .
وضع اولمي صاحب الإبداعات السينمائية الرفيعة : (شجرة القباقيب)، (حياة مديدة للسيدة العجوز)، (أسطورة القديس السكير) وغيرها من تلك الأعمال السينمائية التي ظلت عالقة في ذاكرة عشاق الفن السابع، بصمته الخاصة على مسار الفيلم الإيطالي طيلة السنوات الأربعين الفائتة.
اعتبر اولمي قامة من بين أركان السينما الإيطالية الجديدة التي أعقبت بروز تيار الواقعية الجديدة رغم محدودية إنجازاته، والمتباعدة زمنيا، إلا إنها شكلت بريقا لامعا واكتشافا أعاد الثقة والانتعاش للسينما الإيطالية مجددا بعد أن ظن الكثير من المتابعين أنها دخلت في سبات عميق.

تجريد مبتكر
نباهة ويقظة اولمي فرضت نفسها على مراحل تطور السينما الإيطالية في أكثر من حقبة، وظلت أفلامه على رغم ندرتها قياسا بسنوات عمره المديدة، تغوص في تجريد مبتكر وفي أفكار بسيطة حول مفاهيم العذاب والشغف والأحلام والحب والطهارة والموت والألم وسائر أشكال المعاناة والقسوة التي تعصف بالفرد في أمكنة وأزمان متباينة. 
التقط اولمي جماليات أفلامه من ذلك الموروث الخصب الذي سجلته ريشة فناني عصر النهضة في لوحات تشكيلية لا تفوتها تلك التفاصيل الدقيقة وقدرتها على التعبير والنفاذ إلى أعماق الوجدان الإنساني .
استحق اولمي بجدارة السعفة الذهبية في مهرجان (كان) عن فيلمه المسمى (شجرة القباقيب) العام 1978، مثلما نال جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية ( فينيسيا ) السينمائي الدولي العام 1987 عن فيلمه المعنون (حياة مديدة للسيدة العجوز)، وأيضا في انتزاعه العام التالي الجائزة الكبرى الاسد الذهبي في المهرجان ذاته عن تحفته (أسطورة القديس السكير)، التي صور فيها بحذق ومهارة رحلة العذاب الأرضي والخلاص بالموت. 
يرى اولمي الشديد الانتماء إلى معتقداته الدينية، إن ملاذات أبطاله دائما تكمن في العيش بقيم وأخلاق اجتماعية مستمدة من الموروث الروحي في ثقافاتهم في تحد صارخ لأخطار يلوح بها المستقبل المنظور.

جماليات الريف
قبل أربعة أعوام اطل أولمي على عشاق فنه كواحد من أقطاب الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية بفيلمين معا هما: (مائة كود) و (انشانتات) الذي صورت أحداث هذا الأخير بعيدا عن وطنه الام ايطاليا عندما اثر التوجه إلى الصين، وهو الذي رغب منذ سنوات بالتواري عن الأنظار بعد أن قدم تحفته السينمائية الخالدة (شجرة القباقيب).
من النادر أن يتناول النقاد أو وكالات الأنباء و الصحافة أخبار المخرج أولمي، الذي يعتبر ولا زال في نظر البعض من النقاد آخر الرجال الأفذاذ في تيار الواقعية، وأفضل من قدم الريف الإيطالي في سينما أنيقة ممتعة وذات عمق وهي الأعمال الآخذة في التلاشي أمام طوفان أفلام التجريب والابتكار الذي توفره تقنيات السينما المعاصرة، التي ينهض فيها مجموعات من المخرجين الشباب القادمين من أرجاء المعمورة .
ويحسب لايرمانو أولمي دعمه وثقته في إبداعات الشباب والتواصل مع تلك الطاقات دون أي حساسيات قد يقع فيها أبناء جيله من أولئك الذين يجدوا أنفسهم في خانة صراع الأجيال، في الوقت الذي ظل فيه أولمي قريبا ومعلما وملهما للجيل الشاب الحالي في حراكه النشط داخل السينما الإيطالية وباعثا فيهم مزيد من المثابرة والاندفاع والتواصل مع ماضي سينماهم العريقة، التي طالما شكلت بجمالياتها وجموحها الفكري رونق وذائقة ثقافة السينما العالمية وحضورها البهي بشغفها ودفئها الإنساني النبيل، الأمر الذي منح أعمالها الجديدة تلك الاستعادة لماضيها القريب، كما برز في حضورها اللافت ضمن فعاليات الدورات الأخيرة لمهرجانات: كان، برلين، وفينيسيا.

بذرة التنوع
اندفاع أولمي تجاه بزوغ طاقات جديدة من أبناء وطنه، لم يكن وليد نزعة ذاتية بقدر ما كان ساخطا على نتاجات الشركات السينمائية الإيطالية في السنوات الأخيرة لأعمال لم تكن تحمل بذرة التنوع، أو الإضافة إلى ما شهدته فضاءات السينما الإيطالية من إشتغالات ورؤى جمالية ودرامية لا زالت عالقة في ذاكرة عشاق السينما إلى اليوم.
 بالتأكيد بفعل حنكته ودوره اليقظ اخذ أولمي على عاتقه كمبدع ورائد في مجاله أن يعمل على تغيير ما حيال السينما التي لم تعد تشاهد على نطاق واسع لانكفاءها خارج موضوعات السينما الإيطالية في حقبتها الزاهرة، نظرا لكونها أيضا تستمد موضوعاتها من تقليد قصص وحكايات الآخرين على نحو فج، لا يستقيم بحسبه حقيقة مكانتها المرموقة التي تربعت عليها بفعل أساطينها لزمن ليس بالقصير من تاريخ دنيا الأطياف والأحلام .
اختار أولمي محطة أولى لإعادة وهج وبريق الفيلم الإيطالي على خريطة المشهد السينمائي العالمي، عبر توجيهها بان تعيد قراءة واقعها من داخل تفاصيل الحياة اليومية للإيطاليين، دون أن تقتات من ذاتها على نحو دعي أو استعراضي لا يرقى إلى مشكلات المجتمع الحقيقية في الزمن الحالي، وان لا تقطع صلتها بجماليات الموروث الذي قدمته طاقات إبداعية راسخة .
ينحدر ايرمانو أولمي من عائلة بسيطة تقطن الريف الإيطالي حملته إلى عالم الفن السابع بعد أن درس التمثيل في معهد الفنون الجميلة، ثم اتجه إلى العمل في إحدى شركات الخدمات الكبرى التي اختارته لان يكون منشطا فنيا، قادته لاختيار عروض الأفلام والمسرحيات لعمال الشركة في ساعات الفراغ قبل أن تمنحه الشركة في فترة الخمسينات من القرن الماضي فرصة القيام بانجاز أفلام قصيرة من النوع التسجيلي، ومن خلالها أذهل عدد من النقاد السينمائيين لما اشتملت عليه أفلامه من اهتمام فطن بالمؤسسات والشركات الصناعية وما يدور فيها من قصص أولئك العمال في بيئة تتفاوت بين سكون الريف وصخب المدينة وأنماطها الإنسانية .

اهتمامات بصرية
بيد أن العام 1959حمل مفاجأة المخرج أولمي عندما قدم أول فيلم روائي طويل من إخراجه تحت عنوان (توقف الزمن)، وفيه تناول عملية تشييد ساتر ضخم في الجبال بالتزامن مع ولادة صداقة صعبة بين عاملين ينتمي كل منهما إلى جيل مختلف، قدم فيه مزيجا من الاهتمامات البصرية ذات الاعتناء والدقة في تفاصيل تعانق مفردات البيئة الصعبة التي دارت فيها الشخوص والأحداث، بدا وكأنه في رحلة تحدي أمام قامات زملائه المخرجين المكرسين في تيار الواقعية الآخذة شهرتهم في الامتداد آنذاك كأسماء: البرتو لاتوادا وفيدريكو فيلليني وبيار باولو بازولليني وروبيرتو روسولليني.
واستطاع بعد عامين أن ينجز عمله الروائي الطويل الثاني (الوظيفة) الذي تلقفه النقاد باهتمام مضاعف، رغم ما فسره العديد منهم بأنه يحضر كامتداد لفيلمه الأول في تمكنه من القبض على أسلوبية لا تتبدل أو تتحول، مصوراً فيه شخصيات يتبيّن أنها ضحية مجتمع اخذ في البزوغ ضمن آفاق التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعصف بايطاليا . 
واصل أولمي مسيرته السينمائية المبكرة بعمله الثالث (الخطباء) الذي استقبل بجدل نقدي واسع، حيث عده النقاد احد أركان الموجة الجديدة في السينما الإيطالية، التي كشفت عنها حقبة نهاية الخمسينات الستينات وهو الفيلم الذي اتبعه بنشاط مميز على صعيدي العودة إلى صنع الأفلام التسجيلية أو الاشتغال في مسلسلات المحطات التلفزة، قبل أن يقرر العودة إلى الشاشة البيضاء بفيلمه المعنون (ذات يوم) المأخوذ عن واحدة من الحكايات الخيالية التي تسري أحداثها في منطقة بالريف الإيطالي تبين ارتباط المخرج بالبعد الديني.
 اتبعه أولمي بفيلم ذائع الصيت والشهرة (شجرة القباقيب) 1978 المستمدة موضوعاته من سيرته الذاتية في مرحلة الطفولة والذي اشتغل عليه مطولا في سبيل الحصول على نتائج تتطابق مع تحضيراته واستعداداته التي وضعها نصب عينيه لتكون حقائق دامغة وشهادة على من هم في جيله الذين دارت في محيطهم أحداث ايطاليا الجسيمة، وكانت النتيجة تحفة ما زالت محفوظة في قائمة الإبداع السينمائي العالمي.
شجرة القباقيب
أعاد أولمي في رائعته (شجرة القباقيب) الاعتبار إلى أولئك المهمشين والبسطاء القاطنين في أطراف المدن إبان حقبة زمنية تعود إلى بدايات القرن الماضي، وكأنه يبغي الإشارة إلى الدور الذي قاموا به في تاريخ ايطاليا رغم محدودية امكانيتهم، لكن كل فرد منهم كانت تمتلكه نزعة الانغماس ببيئتهم البسيطة على خلفية من الهموم والقضايا اليومية المغلفة بأحاسيس ومشاعر وانفعالات إنسانية خصبة، بحيث صورتهم كاميرا أولمي بعين حاذقة تنشد تلك اللوحات التشكيلية التي جسدتها ريشة أكثر من رسام تشكيلي إيطالي قادم من بطون التاريخ .
عالج أولمي في أفلامه القليلة التالية موضوعات متباينة تندرج ضمن البعد الديني الذي غدا سمة لاصقة تفيض بالرؤى المسيحية التي تفيض بأجواء من التسامح والتكافل الإنساني في ظروف قاسية بحيث نأى عن نفسه الوقوع بفخ التبشير، وكان فيلميه (في اثر النجمة)، و(حياة مديدة للسيدة) 1987 الذي قطف عنه الأسد الفضي في البندقية، و(أسطورة القديس السكير) الذي نال عنه جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية العام 1988 بوصفهما أكثر الأفلام جاذبية من بين سائر أفلام المنجزة في حقبتي الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت، وعانى في أثناء تحقيقهما من أعراض صحية صعبة قبل أن يتجاوزها ويعود إلى الشاشة البيضاء بفيلمه (مهنة أسلحة) العام 2001 .
انتظر اولمي سبعة أعوام لينجح في تحقيق فيلمه المسمى (مائة كود)، وهو الاسم المستمد من موروث ديني مسيحي، ناقش فيه حكاية الأستاذ الجامعي الذي يجد نفسه في ورطة تحقيق قاس، ولا يجد ملاذا له سوى أن يعزل نفسه إلى منطقة ريفية بالقرب من نهر معروف، وهناك يتصالح مع ذاته ومحيطه الإنساني وكأنه يستلهم في حياته الجديدة تعاليم وأفكار دينية تعينه على مواجهة اشكالياته في التصالح مع نفسه ومحيطه الاجتماعي وبيئته الطبيعية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com