الأربعاء، 27 فبراير 2013

على بحر شط الهوا رسيت «مراكبنا»

صورة

نضال حمارنة - حين أقف على ضفة نهر ، أو شاطئ بحر أتأمل المدى .. وأسأل .. من يكون الواقف قبالتي على الضفة الأخرى ؟ .. وهل يدرك أنني أقف في زاوية توازي وقوفه مهما قربت أو ابتعدت المسافة .. دائماً الآخر البعيد يغريني بالتواصل معه .. والتعرّف عليه .. والتشابك مع نمط عيشه .. أو هواجسه وأفكاره وحتى أحلامه .. والتشابك في عرفي بمعنى المثاقفة أي تبادل القيم المجتمعية من خلال انفتاح الأفراد على بعضهم البعض بندّية بعيداً عن العجرفة أو الدونية . الحلم بتعدية الماء .. كالحلم بالطيران . الحلم بعبور الماء كالمستحيل .
.. وكأن الإنسان القديم خاطر بشدة كي يعرف نهايات اليم الممتدة إلى ما لانهاية . في البداية عبر الإنسان النهر من ضفة لأخرى ليوسع أسباب العيش ويكتشف كنوز أرضه وامتداداتها ، ليفرح باختصار الوقت والجهد .. ويستزيد من تنامي أفكاره باختراعات جديدة توسع مدركاته وتعطي لحياته غايات وأهدافا وأماني مختلفة .. وتصبح نفسه جياشة بالجرأة والإقدام .. وروحه عامرة بالبهجة والجمال .. بدءً من تماهيه مع الطبيعة المحيطة به وانتهاءً بتواصله مع البشر .

مراكب الحياة والحب 

المراكب النهرية أول المراكب التي استخدمها الإنسان للانتقال عبر ضفاف الأنهار ، لتبادل المنتجات الزراعية والبضائع المختلفة ، وعنها اكتشف أنه يستطيع صيد الأسماك بوفرة أكثر بعض توصله لرمي شبكات الصيد في الماء . ومن أشهر المراكب في مصر القديمة (مركب الشمس) أو مركب خوفو وقد صنع من خشب الأرز المنحوت بإتقان وربطت أجزاؤه بالحبال ، أضفي على هذا المركب الطابع الديني وارتبط بأسطورة الإلـه رع . كما عثر علماء الآثار على نوع آخر من المراكب عُرف بالسفن الجنائزية ومهمتها استعادة الحياة من الأماكن المقدسة فهي فقط تحمل روح الألهة . بينما اكتشف السومريون في بلاد مابين النهرين المركب الشراعي الأول وقد سُيّر بحركة الرياح وحسب اتجاهها ، واستخدم لغرض نقل المحاصيل الزراعية والأدوات المختلفة . لمراكب الصيد والمراكب الشراعية المتنوعة قصص وحكايات 
 يا شراعاً وراء دجلة يجري
في دموعي تجنبتكَ العوادي
سِرْ على الماء كالمسيح رويداً
واجرِ في اليم كالشعاع الهادي
قفْ! تمهلْ! وخذْ أماناً لقلبي
من عيون المها وراء السوادِ
بتلك الأبيات انفعل الشاعر أحمد شوقي حين زار العراق لأول مرّة في ثلاثينيات القرن العشرين .
 فمن لهفة اللقاء بعد غياب أصحابها أوتعرضهم للمخاطر .. أوحرقة الوداع لو كانت الرحلة بعيدة .. وفلكلور الشعوب يمتلئ بالأشعار والأهازيج والأغاني الحزينة أوالراقصة .. وقد ارتبطت كلمة (هيلا) بحياة الصيادين وبروح مهنتهم وأسس على تلك الكلمة العديد من المواويل والأغنيات ..كما ارتبطت بعض الآلات الموسيقية بالمراكب كالسمسمية في حوض البحر الأحمر . أما المراكب الصغيرة المعروفة بالقوارب والتي تنقل المسافرين فقط فقد كانت أول وسيلة مواصلات جماعية ، بوساطتها تعرف الناس على مجموعات اجتماعية جديدة بعيدة عن بيئتهم الأولى من أقارب وجيران .
كان للعشاق
 «حواديتهم» مع القوارب 
وبذلك مارسوا تواصلاً اجتماعياً مختلفاً بعيداً عن التقوقع والعصبيات والخوف من الآخر ؛ وزادهم الانفتاح خبرات على خبراتهم . وكان للعشاق حواديتهم مع القوارب والمراكب الشراعية ، فالشراع أصبحت له دلالات مختلفة لدى المحبين وأهل الهوى والمرسى لايحمل فكرة الأمان على الشط .. أو الرجاء من المخاطر . فالشمس حين تُذهّب النخيل على شط النيل بقصيدة الشاعر بيرم التونسي :» 
أنا وحبيبي يا نيل نلنا أمانينا
مطرح ما يسري الهوى ترسي مراسينا
والليل إذا طال وزاد تقصر ليالينا .
أما الشاعر نجيب سرور الذي عاش حياة مليئة بالملاحقة والابتزاز من الأجهزة الأمنية في مصر فترة الستينيات من القرن الماضي .. كتب عن المراكب بوصفها أملاً وتواصلاً :»
حلّوا المراكب مع المغرب وفاتوني
ع الشط واقف ! بلا مركب وفاتوني
ساعتها قلبي شَهق
يشهد عليه الشفق .

مراكب نشوة الاكتشاف 
يعتبر الفينيقيون سكان ساحل بلاد الشام أول شعوب الأرض التي جازفت بفضول المعرفة ، وخاضت عباب البحر الأبيض المتوسط بحثاً عن نهاية الطرف الآخر للمياه .. وبحثاً عن مجهول تريد الوصول إليه .. ربما أرض جديدة .. أو حلم آخر من أحلام الانعتاق من روتين الحياة وتكرار ما يحدث كل يوم .. أو ربما بحث عن غريب غير معلوم . فجهـّز هؤلاء الأوائل من خشب الأرز وسواه مراكب شراعية مجهزة بأصحاب الجرأة والحلم والثقة فتعرفوا على مصر وبلاد الإغريق وفيما بعد أسسوا مدينة قرطاجنة في شمال أفريقيا (تونس حالياً) .
وجاء بعدهم الإغريق والرومان . أما في عصر ازدهار التجارة فقد كان البرتغاليون رحالة الاكتشافات الجغرافية ومن بعدهم الإسبان في القرون الوسطى .. وكانت الموانئ العمانية في تلك الفترة من ازهر المرافئ التجارية وقد ذاع صيت بحاريها الأشداء ذوي الخبرة العملية والعلمية بين تجار العالم الوسيط ، ويعتقد أن بعضهم شارك في سفن الاكتشافات عبر المحيطات وأيضاً في اكتشاف الأراضي والجزر الكثيرة . 
وتعتبر هولندا من أكثر دول العالم شهرة في بناء السفن بأنواعها ، فشعوب تلك المناطق تعيش فوق مياه عائمة . 
تلك الحقبة الغنية في عالم الإبحار أوجدت شرائح اجتماعية انخرطت في أعمال خارجة عن القانون ؛ ربما لأن الدول المسيطرة على خطوط التجارة العالمية أرادت الاستئثار بمغانم تجنيها على حساب الشعوب فاحتكرت مياه البحار لمصالح حكامها وكل من خرج عن ولائها اعتبرته قرصاناً وجب معاقبته . فمن خلال يوميات عتاة البحارة وبعض مخطوطاتهم نجد تلك العنجهية وفكرة السيطرة على الشعوب الأضعف وحتى استعبادها وتحويلهم إلى سلع تباع عبر القارات ؛ وما حدث للأفارقة من مهانة على طريق العالم الجديد يحتاج إلى أكثر من تعويض مادي أو معنوي . 

 سفن الموت المتحرك
أعتقد أن البوارج الحربية وسفن الأحلاف العسكرية بغض النظر عن انتمائها السياسي ؛ هي سفن موت متحركة عبر المحيطات والبحار والموانئ مضافاً إليها الناقلات التي تحمل النفايات النووية لتدفنها في بقاع الأرض النامية (العالم الثالث) . إن العالم اليوم أصبح أكثر اكتراثاً ووعياً .. ويريد المحافظة على أمانه من الفناء والتلوث بعيداً عن ضجيج المصالح وصراع الكبار . إن العلم والاكتشاف تحقق من أصحابه من أجل الإنسان .. لرغد حياته .. لأحلامه وأحلام أولاده وأحفاده .. الإنسان الحالم دائماً بالأجمل والأحلى على طريقة الشاعر جاك بريفير :»
في الصيف كما في الشتاء
في الطين وفي الغبار
ممدداً على جرائد قديمة 
الرجل الذي حذاؤه تدخل فيها المياه
يُرسلُ عينيه بعيداً نحو المراكب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com