الأربعاء، 6 فبراير 2013

ألـحّ .. يُلـحُّ .. إصرارا!

صورة


إبراهيم كشت - اشتُهرت عبارة (ألحّ .. يُلحُّ .. إصراراً) التي قالها عادل إمام في مسرحيته (شاهد ما شفش حاجة) ، لما فيها في دعابة تثير الضحك ، حيث يتوقع السامع أن تكون العبارة (ألحَّ ، يُلحُّ ، إلحاحاً) وفق ما اعتاد عليه سَمْعُهُ عند تصريف الكلمات في اللغة العربية ، ومجرد تغيير كلمة (إلحاحاً) لتغدو (إصراراً) على لسان بطل المسرحيّة ، كانت كافية لإثارة المفاجأة اللطيفة ثم الضحك ؛ لمخالفتها للصيغ المعهودة . ورغم وجود تقارب بين معنى (الإصرار) ومعنى (الإلحاح) ، إلا أن (الإصرار) أكثر ارتباطاً بمعنى التمسك بالرأي أو الموقف ، أو المثابرة على عمل معين لحين إنجازه . بينما يرتبط الإلحاح بشكل أكبر بمعنى الاستمرار في تكرار طلب معين والتأكيد عليه من خلال نفس الوسيلة أو بوسائل متعددة . على أي حال فإن ما يهمنا هنا هو الحديث عن (الإلحاح) كسلوك يصدر عن ثقافة .

الإلحاح .. قد يعبّر عن غياب الصدق والثقة :
أعتقد أن (الإلحاح) نمط سلوك شائع في مجتمعنا ، نمارسه في بعض جوانب حياتنا ، على نحو يعبر عن ثقافة راسخة ، ربما تنجم عن الاعتقاد بأن قرار الطرف الآخر الذي نتعامل معه قابل دائماً للتبدّل وليس حاسماً ، أو قابلٌ لأن تَردَ عليه استثناءات . أو أن موقف هذا الآخر ليس صادقاً ، أو أن ظاهره لا يشير إلى حقيقة ما في دخيلته . وبالتالي فإننا نريد منه ، ومن خلال الإلحاح ، أن يتخذ الموقف الذي يتناسب مع الحقيقة ، أو مع ما نرغب به . أو ربما نقصد بهذا الإلحاح التأكيد على صدقنا فيما ندعو إليه ، لأن في نفسنا شكاً بأن الطرف المقابل لا يُصدِّقنا ..! 
خذ مثلاً على ما تقدم ، ذلك الإلحاح الذي نتفنن في ضروبه في أثناء الضيافة ، وعند تقديم الطعام . فها هو المدعوّ إلى طعامنا يُعلن شبعَهُ ويعبر عن شكره . لكننا نلح عليه بأن يملأ صحنه من جديد، أو يتناول حبة أخرى من فاكهة أو حلوى أو سواها . أو يذوق من هذا ويجرِّب ذاك ، فيُعلمنا بعدم رغبته ، وربما عدم قدرته على أن يستزيد ، لكننا نُلِحُ ، وربما نقسم عليه ، (بس هالنتفه) و(هاي مشاني) و(اللهِ بزعل) . وقد يكون هذا السلوك معبِّراً عن الكرم أو الاهتمام أو الحفاوة بالضيف . لكني أعتقد أن لسان حال من يلحُّ على أحد في طعام أو دعوة كأنما يقول للطرف الآخر : أنت لستَ صادقاً في رفضك ، فإنك ترغب بهذا الطعام أو الشراب ، ولكنك تتمنع لخجل أو عزة نفس أو رغبة بالمزيد من الإلحاح . ولو كانت الثقة والصدقية والوضوح قائمة ومتوافرة ، إذن لاكتفى المضيف بالعرض ، واكتفى الضيف بالرد بالقبول أو الرفض .

سلوكٌ لم يعد يناسب العصر :
ربما كان سلوك الإلحاح في الدعوة للولائم ، أو الإلحاح على تناول المزيد من الطعام والشراب ، متناسباً مع أفكار وقناعات سادت ثمَّ تبين خطؤها . فقد كنا نطلق على الشخص ظاهر البدانة تعبير (صحته كويسة) ، وكنا نخشى عليه من الحسد ، وكانت أمه تسعى في زيادة سُمنته إن كان طفلاً أو فتى ، كما كان يعتبر حجم الأفعال متناسباً طردياً مع كمية الطعام ! فكان يقال مثلاً : (أكل رجالها قد فعالها) . أما وقد بين العلم أخطار زيادة الوزن ، وأثر السُمنة في المرض والتسبب بالموت ، وبات كثير من الناس يتبعون حِميةً أو نظاماً غذائياً لأسباب متعددة ، فإن الإلحاح في الطعام صار يشكل في بعض الأحيان إحراجاً ، أو سبباً في إضعاف عزيمة الشخص المقابل على الالتزام ببرنامجه الغذائي .

الإلحاح .. لأجل مخالفة القانون :
من المجالات الأخرى التي تبرز فيها ثقافة الإلحاح تعاملنا مع القوانين والأنظمة والتعليمات والقرارات الصادرة عن الجهات الرسمية ، أو مع من ينفذون القانون ، لاعتقادنا في كثير من الأحيان أنها ليست باتّـة ، أو ليست نهائية قاطعة ، وأن ثمة إمكانية دائماً للاستثناء ، وإمكانية لتغيير القرارات نتيجة الضغط بالإلحاح والمراجعة . أو لاعتقادنا بأن هذه القرارات ذات بعد شخصي وليس قانوني ، وأن للعاطفة دوراً فيها ، أو دوراً في تغييرها. وقد يكون لهذه الاعتقادات ما يبررها أحياناً ، فثقافة الإلحاح يتسبب بها في كثير من الأحيان طرفا العلاقة كلاهما ، وليس واحد منهما وحسب .
ومَثَلُ هذا الإلحاح الذي تقدم ، أن يكون لشخصٍ طلبٌ لدى دائرة رسمية ، كالحصول على ترخيص لممارسة مهنة مثلاً ، فيصدر القرار بالرفض لعدم استيفاء الشروط من الوجهة القانونية . لكنه لا يقتنع ، ويظل يراجع ويُلح ، ويصرُّ على مقابلة الموظف الأعلى ، والمدير المسؤول ، ويسأل عمّن يمكن أن يؤثر في أصحاب القرار ، أو يبدل من آرائهم ، تعبيراً عن الشعور والاعتقاد بأنه لا يتعامل مع قانون واضح وتعليمات محددة وقرارات حاسمة ، بقدر ما يتعامل مع أهواء نفسية واعتبارات شخصية . وكما ذكرنا ، فقد يكون السبب في نشوء ثقافة الإلحاح هذه وترسّخها ، عائداً للمسؤول صاحب القرار وللمواطن الملحاح نفسه ، أحدهما أو كلاهما .

إلحاحُ الباعة والمسوّقين :
ومن صور الإلحاح الأخرى التي نلمسها في مجتمعنا ، ذاك الذي يمارسه بعض الباعة ، سواء في المتاجر ، أو إذا كانوا باعة متجولين ، أو مندوبي مبيعات أحياناً . وهو إلحاح قد يصل حدّ التسبب لك بالضيق والحرج ، وربما يجبرك على شراء ما لا ترغب فيه ، أو ما لم تقتنع به أساساً ، هذا إذا كانت تجارب الحياة لم تعلِّمك كل فنون عدم التأثر بالإلحاح الذي يصل حدَّ اللزوجة ، مشفوعة بكل سبل الإقناع ، القائمة غالباً على الخداع والتخجيل والإحراج والضغط . وذلك ما يثير تساؤلك أحياناً عن السبب الذي يجعل الشراء في متاجر الدول المتقدمة أبسط وأسهل وأكثر احتراماً لحريتك ، فهم يتبعون كل وسائل الترويج لإقناعك بشراء السلعة أو الخدمة ، أو حتى لخلق الطلب والرغبة فيها لديك ، لكن دون أن يكتموا على نفسك بالإلحاح اللصيق الدبق . 

وبعد ..
كثير من السلوكات السلبية التي تسود في المجتمع وتعبر عن ثقافته ، مثل (الإلحاح) بصوره المتقدّمة ، تحتاج لإعادة مراجعة وإعادة تفكير ، فمجرد تدبّرها ، والبحث عن تفسيرها ، ومعرفة دوافعها ، قد يساعد على تكوين القناعات التي تقلل من انتشارها .
 Kasht97@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com