الخميس، 12 سبتمبر 2013

"سييرا دي غريدوس".. قلب إسبانيا الحجري

الوعل ينتشر بمنطقة سييرا دي غريدوس - (د ب أ)

أويوس ديل إسبينو- تتنوع عوامل الجذب السياحي في اسبانيا ما بين الشواطئ الرملية الناعمة والمناظر الطبيعية الخلابة والكنوز التاريخية والأثرية التي تعود إلى عصور مختلفة، بالإضافة إلى مناطق التجول التي تتيح للسياح فرصة الهروب من ضجيج المدن الكبرى، منها منطقة سييرا دي غريدوس.
وعلى الرغم من أن هذه المنطقة تبعد مسافة ساعتين بالسيارة عن العاصمة مدريد، إلا أنها تُعد من أكثر المناطق الجبلية البكر في إسبانيا، والتي لم تعبث بها يد الإنسان. ونظراً لوقوعها في منتصف شبه جزيرة آيبيريا؛ فهي تشتهر باسم القلب الحجري لإسبانيا.
وتبدأ منطقة سييرا دي غريدوس بعد عدة كيلومترات من موقف السيارات الذي يُعرف باسم بلاتافورما، حيث ينتهي هناك الطريق الزراعي القادم من قرية أويوس ديل إسبينو أمام الصخور الجرانيتية الضخمة التي يبلغ ارتفاعها 1780 متراً. وفي البداية يمر طريق التجول وسط عالم من الضفادع لفترة قصيرة، حيث يسمع السياح أصوات الضفادع أثناء المرور على الهضبة الخضراء برادو دي لاس بوزاس. ويهيمن على هذا المشهد البديع مناظر المروج والمراعي الجبلية الخضراء التي يتخللها ظهور بعض البرك المائية والجداول الجبلية الصغيرة.
حقول من الجليد
وبعد المرور على نافورة فوينتي دي لوس كافادوريس تطغى المناظر الجبلية على التضاريس الطبيعية التي تصبح أكثر وعورة، ولا يمكن الوصول إليها إلا بصعوبة بالغة. وفي كثير من الأحيان يضطر السياح من عشاق التجول إلى عبور حقول الجليد والثلوج حتى أول الصيف خلال حزيران (يونيو). وفي مشهد مهيب يرتفع جبل المنصور إلى 2592 متراً وتظهر قمته مغطاة بالجليد، ويعد هذا الجبل أعلى قمة جبلية في منطقة سييرا دي غريدوس.
وفجأة سمع السياح صوت فرقعة مدوية كسرت الصمت الرهيب الذي يخيم على المشهد الجبلي البديع، وهنا توقفت إريكا وفيلفريد عن مواصلة المسير، وتساءل الزوجان الألمانيان عن مصدر هذه الفرقعة، وعما حدث بالضبط. وقد رغب الزوجان الألمانيان أثناء زيارتهما للعاصمة الإسبانية في الاستمتاع بجولة تجول لعدة أيام بالقرب من منطقة سييرا دي غريدوس.
ونظر السياح في جميع الاتجاهات بحثاً عن مصدر الفرقعة، ولم يتمكنا في البداية من رؤية أي شيء، لكن بعد ذلك ظهر اثنان من الوعول على حافة الصخور، التي تبعد عدة أمتار عن مسار التجول، وهنا ظهر سبب الفرقعة، حيث دائماً ما تصطدم الوعول قرونها مع بعضها بعضا، وهو ما يتسبب في ضجة صاخبة، وفجأة ظهر قطيع كامل من الوعول على حافة الصخور فوق مسار التجول، ومن الواضح أنهم لا يشعرون بأي تهديد مع وجود الإنسان في هذه المنطقة.
ولكن هذا الوضع كان مختلفاً قبل 100 عام، عندما أوشك الوعل الإسباني على الانقراض في منطقة الصيد البري الملكية سييرا دي غريدوس، حيث أصدر الملك ألفونسوا خلال العام 1905 قراراً بحظر الصيد في هذه المنطقة، عندما لم يعد هناك سوى ذكر واحد وسبع إناث وأربعة من صغار الوعل.
ولم يكن ذلك القرار، الذي صدر فجأة، من منطلق حرص الملك الإسباني على الحفاظ على البيئة، ولكن كي يُؤمن لنفسه أعداداً كافية من الوعول لصيدها في المستقبل. ونتيجة لهذا القرار فقد ارتفع عدد الوعول  إلى 10 آلاف منتشرة في ربوع هذه المنطقة الجبلية.
وبسبب الاهتمام بالوعول المنتشرة في كل مكان فقد تغافل الزوجان الألمانيان عن مشاهدة بحيرة لاغونا غراندي الجليدية، التي تعتبر واحدة من أكبر خمس بحيرات جبلية في هذه المنطقة. وقبل أن تبدأ رحلة العودة إلى قرية أويوس ديل إسبينو، التي تعد نموذجاً للقرى الجبلية المركزية في إسبانيا والتي تقع على ارتفاع 1500 متر، قام الزوجان بتبريد أقدامهما في البحيرة الجبلية المغطاة بالجليد. وقد امتدت رحلة التجول لمدة ست ساعات في منطقة سييرا دي غريدوس، التي تعد بكل تأكيد واحدة من أجمل مناطق التجول، ولكنها ليست الوحيدة.
الهضبة الوسطى
وهناك الكثير من مناطق التجول الرائعة في إسبانيا بدءاً من منطقة نافاكيبادا دي تورميس ومروراً بالنهر الجليدي باربليدو وصولاً إلى منطقة بورتو دي كانديليدا التي تقع شمال منطقة سييرا دي غريدوس الشهيرة، وبالإضافة إلى الجزء الجنوبي من الطريق الممتد من القرية الجبلية إل راسو إلى قمة جبل المنصور. وبدءاً من منطقة أريناس دي سان بيدرو، التي تهيمن عليها أجواء العصور الوسطى والتي يوجد بها قلعة «الكونتيسة الحزينة»، يمتد مسار التجول الرائع وسط الصخور الجرانيتية العمودية في منطقة لوس غالايوس؛ حيث إنها تعد بحق جنة لعشاق تسلق الجبال والمرتفعات الصخرية.
ولا يقتصر دور الهضبة الوسطى الصخرية على تقسيم مقاطعة قشتالة الأسبانية إلى جزء شمالي وآخر جنوبي، لكنها تقسم المنطقة أيضاً من الناحية المناخية، حيث تسود طبيعة قاحلة على الجزء الشمالي، في حين تهيمن أجواء البحر المتوسط على المنحدرات الجنوبية وتنتشر مزارع النخيل والتين والبرتقال والزيتون.
ويمتاز الجانب الشمالي من منطقة سييرا دي غريدوس بوجود العديد من مزارع الثروة الحيوانية وانخفاض الكثافة السكانية، حيث يرتفع الجبل من هذا الجانب بشكل مستوٍ تقريباً، لذلك فإنه يعد من الأماكن المثالية لجولات التجول والتنزه والسير لمسافات طويلة، بينما يلبي الجانب الجنوبي من منطقة سييرا دي غريدوس طموحات عشاق التجول المتمرسين وهواة تسلق الجبال.
كنوز تاريخية
وتمر مسارات وطرق التجول وسط البساتين ومزارع التين والكرز والغابات الكثيفة من أشجار الصنوبر والبلوط والكستناء، وهذه الطرق قد مر عليها بالفعل الكلت والعرب والرومان والعديد من الملوك والأباطرة مثل كارلوس الخامس. وهناك العديد من القرى الجبلية التي تعود إلى العصور الوسطى وتزخر بالعديد من الكنوز التاريخية التي تستحق الزيارة، ومنها على سبيل المثال بلدة إل باركو دي أفيلا التي توجد بها قلعة فالدمورينيا والجسر القديم على نهر تورميس.
وينتشر في هذه المنطقة غير المأهولة عدد من القلاع والكنائس والقرى الرائعة، حيث تتمتع منطقة سييرا دي غريدوس بأهمية استراتيجية كبيرة، إذ خاض الكلت هنا معارك عنيفة ضد الرومان. وانطلاقاً من منطقة كوفاس ديل فاليه يبدأ طريق تجول في غاية الروعة والجمال، حتى إنه يعد واحداً من أفضل الطرق الرومانية التي لا تزال محفوظة في أسبانيا، والذي يؤدي إلى الممر الجبلي بورتو ديل بيكو. وقد تم إنشاء هذا الطريق في القرن الثاني قبل الميلاد لتسهيل تحرك قوات الجيش الروماني في منطقة سييرا دي غريدوس.
وقد أطلق الكاتب والفيلسوف الأسباني ميغيل دي أونامونو على منطقة سييرا دي غريدوس اسم «سقف مقاطعة قشتالة والقلب الحجري لأسبانيا». وبالنسبة للعديد من الأسبان لا تعتبر هذه المحمية الطبيعية بمثابة جنة لعشاق التجول والسير لمسافات طويلة فحسب، بل إنها تُعد مكاناً للمشاعر الوطنية الجياشة.-(د ب أ)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com