مجد جابر

عمان- بعد أن قضت الحاجة عائشة معطي كل عمرها في تربية أبنائها وفي السهر عليهم والتضحية من أجلهم في كل شيء، وبعدما زوجتهم جميعهم، باتت تشعر الآن وكأنها عادت إلى نقطة الصفر، فالبيت بات فارغاً موحشاً، من حولها هي وزوجها؛ إذ صار كل منهما يجلس مقابل الثاني في هدوء تام، وكأن شيئاً لم يحدث في حياتهما.
إلا أن ما يؤلم عائشة ويحز في صدرها الذي لم يبخل يوما بالحنين على أبنائها، هم أبناؤها أنفسهم الذين يهون عليهم اليوم عدم زيارتها، وفق عائشة التي تتساءل بحرقة: هل يعقل أن يتصرفوا معها على هذا النحو مع هذه الأم التي لم تكن تستطيع العيش بدونهم يوما، ولم تسمح لأي مكروه أن يمسهم طوال الوقت، وقد وفرت لهم كل ما يحتاجونه، وسهرت على راحتهم، هل يعقل ألا يأتوا لزيارتها ولو مرة في الأسبوع؟
تقول الحاجة عائشة "أنا أعلم أن كل واحد منهم مشغول في حياته ومع أبنائه، ومتطلبات الحياة الصعبة، لكنهم نادرا ما يزوروننا، وإن زارونا فالبتناوب، وكأنهم يأتون على مضض وليس بدافع الواجب وحب الوالدين. فكم ننتظر، أنا وزوجي، الساعة التي يطلون فيها علينا!".
وتضيف "كم أتمنى أن يأتوا جميعهم، وبرفقتهم كل أحفادي، فأسمع ضجيجهم وفوضاهم في المنزل! إلا أن ذلك لا يحدث. فنحن لا نرى الأحفاد إلا في الأعياد، وكلما سألت عنهم واحدا من أبنائي فلا أجد عنده ما يشفي شوقي إليهم. لكنني رغم ذلك أسعدُ كثيرا حين أطمئن عليهم من أبنائي، ولو من بعيد".
أما السيدة مروة أسعد فهي واحدة من الجدات اللواتي أنجبن 13 ابنا وبنتا، ولديها العديد من الأحفاد الذين يملأون عليها المنزل يومياً، ويملأونه بالضجة إلى حد الإزعاج، وهو ما يجعلها تنزعج منهم أحيانا، أو تطلب منهم أن ينصرفوا عنها إلى بيوتهم، حتى تشعر بالراحة.
إلا أنها سرعان ما تشتاق إليهم ثانية حين تجد نفسها وحيدة في المنزل، فتشعر بالضيق وقد تحزن كثيرا لفرط شعورها بالوحدة، وقد تجعلها هذه الوحدة تلوم أبناءها الذين حرموها من أحفادها، فتسارع إلى الاتصال بهم لكي يحضروهم حتى تجتمع بهم ثانية ليخففوا من وحدتها، ويملأوا البيت من جديد بأصواتهم.
اختصاصي علم الاجتماع د.حسين محادين، يرى أن العلاقة إذا كانت قائمة على التواصل والتراحم والتكافل منذ البداية، فمن المتوقع عملياً أن تمتد بين الأبناء والآباء إلى ما لا نهاية ولا تنقطع مع تقدم الآباء والأمهات في السن.
ويشير إلى أن واقع إحساس الوالدين بضعف العلاقة إنما هو انعكاس لطبيعة العلاقات الأسرية التي عاشتها هذه العائلة أو تلك عندما كانت بكامل أفرادها.
ويرى أن الآباء يشعرون في هذه المرحلة بأن الكثير من الأدوار، ومن الوزن التأثيري والتوجيهي على الأبناء قد بدأ يتراجع بحكم ابتعاد الأبناء عنهم، وضعف العلاقات الأسرية، وبحكم انتقال المجتمع الأردني إلى القيم الفردية وقيم المدينة التي تخلت عن الكثير من القيم الأسرية العريقة.
لا شك أننا نشعر بإحساس الوالدين المؤلم نتيجة تخلي الأبناء عنهما، أو عندما يمتنع هؤلاء الأبناء عن التواصل معهما، في حين لا يتردد البعض في إيداع والده أو والدته في دار الرعاية، رغم إمكانية إحاطتهما بأجواء أكثر تراحماً.
وفي ذلك، يقول الاختصاصي الأسري د.أحمد عبدالله، إن شعور الآباء سواء بالسلبية أو الإيجابية مصدره الأبناء، فهم المسؤولون عنه، وهم الذين يشعرونهم بالراحة والاطمئنان إن هُم احتضنوهم، وهم الذين يشعرونهم بالألم والإحباط إن هم ابتعدوا أو تخلوا عنهم.
ولذلك يشير محادين إلى أن الزيارات التي يقوم بها الأبناء لآبائهم، واصطحاب الأحفاد، وبعض الممارسات الإيجابية هي وحدها الكفيلة بالتخفيف من آلام الآباء والأمهات.
ويضيف أن الأبناء يستطيعون أن يخففوا من هذه المشاعر المؤلمة من خلال إشعار الآباء والأمهات بما قدّموه لهم من سهر وعناية واهتمام وتضحيات. ففي هذا اعتراف منهم بجميل الآباء والأمهات طوال الحياة، وفي ذلك ما يخفف عنهم معاناتهم في هذا العمر المتقدم، ويعوّضهم عن الفراغ الذي تركوه بعد أن اضطرتهم ظروف الحياة إلى الابتعاد عنهم، جسدا وليس روحا.
ناهيك عن أن الأحفاد، وفق محادين، هم الذين يرفعون من معنويات الأب والأم، لأنهم قبل كل شيء امتداد لهم، وقطعة من أبنائهم وبناتهم، ولأنهم بمثابة الحبل السري الذي يربط بينهم من خلال الابن أو الابنة، وفي ذلك ما يُشعر الآباء والأمهات بأن جسور التواصل بينهم وبين أبنائهم لم تنقطع، لأن الأحفاد يشكلون امتدادا طبيعيا لكل أب وأم، فلولا الأب والأم لما كان هنالك حفيد أو حفيدة. وتلك هي الحقيقة الوجودية التي ينبغي أن يعيها كل ابن في هذه الحياة، حتى لا يُقصّر في حق أبيه وأمه، حتى وإن بلغا من الكِبر عِتِيّا.
في حين يرى الاختصاصي النفسي د.جمال الخطيب، أن هذه الحالة، وهو ما يعانيه كبار السن بعد تربية الأبناء وزواجهم، معروفة في الطب النفسي باسم "العش الفارغ"، وهي أن يشعر الإنسان بالوحدة، وهبوط المزاج، مبيناً أن هذا الإحساس يمكن أن يختفي أو يتراجع بشكل ملحوظ من خلال التفاعل الاجتماعي، أو بلجوء الشخص المسن إلى وظيفة ما، غير وظيفته كأب أو أم. فهذه الوظيفة ستملأ وقت فراغه، وتعطيه إحساسا جديدا بأن الحياة لم تستغن عن دوره كإنسان طبيعي، وعن عطائه الذي يمكن أن يتواصل ما دامت روحُه تحمل في جنباتها قلباً نابضاً.