الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

الخريف عندما تنتابنا لحظة الخوف من الجمال

صورة

نضال حمارنة

عندما تنتابنا لحظة الخوف من الجمال؛ نرى انفسنا وقد دخلنا الى فصل الخيال!
 تظهر الغيوم أكثر ابتهاجاً ، بيضاء في حضن زرقة السماء الصافية في النهار ؛ نهار شمسه معتدلة دافئة قليلاً . الغيمة تتسحب ببطء شديد كقفاز من فرو أبيض يشاور به طفل صغير ، الغيمة تناجي الغيمة والذكرى تناجي الذكرى .
وحين يقترب الغروب يرحل اللون البرتقالي من فضاء الشبابيك ، ويطل القمر لامعاً خجولاً بين جنبات السحب الغارقة في رمادية السماء ، هي حالة تمثل يوماً من أيام الخريف ولعل اليوم الذي يليه لايشبه سابقه أو لاحقه فقد نشاهد الغيوم الداكنة المليئة بالتدرج من الرمادي الفاتح والغامق إلى الأسود الشفيف والأكثر ظلاماً هنا تبدأ تغزو مخيلتنا الذكريات الحزينة ، والمواقف المؤلمة فنرى بعضنا يتنهد ، وربما تلمع دمعة كانت منسية خلف جفن العين .

لسعة برد جديدة
ذاك اليوم عبرت الطريق صباحاً ،لفحتني لسعة برد جديدة من أيام الخريف ، كانت اللسعة لاذعة فوق وجهي بعد غياب دام كل شهور الربيع والصيف ، والريح الخفيفة تسحب أوراق الشجر المتساقطة خلف قدمي ؛ أوراق بلون العسل وأخرى داكنة الصفرة أو مائلة إلى اللون البني ، بينما تقف أوراق شجر الزيتون شامخة خضراء على أغصانها ، يهزها الهواء لتسقط ثمار الزيتون الضعيفة أرضاً . على طرفي الرصيف تسكن النباتات المسافرة عن أشجارها ، تهرم بعض الكائنات وتبدأ كأئنات أخرى في النمو ، في الخريف نستمر في جني العنب ، ونبدأ في جمع التفاح لحفظه على مدى العام ، في الخريف تنادينا حبات الرمان والبرتقال لنتلذذ بنكهتها الرشيقة .
كانت الطبيعة تنتفض أمام عيني وأنا أرى بعضها يغادر ويذوي ، وكأن بعض مني أيضاً يغادر ويذوي .

 أشياء خريفية
 هناك أشياء غادرتني وسافرت بعيداً عني لعلها أشياء خريفية كان عليها المغادرة ، هذا ما تبدى لي وأنا أشاهد مجموعة من تلاميذ المدارس يمرون ، وعلى ظهورهم حقائب ثقيلة ، التلاميذ هؤلاء يدخلون إلى صفوف جديدة مع فصل الخريف ، يعبرون إلى المعرفة مع بداية الخريف . وحين يغادر اللون الأسود من شعر البعض ينمو نجاح آخر له ، في الحياة ، في العمل ، أو حين يرى أولاده يكبرون أمام عينيه .
ولعل العظام في عالمنا يقدمون أمثلة رائعة عن خريف أعمارهم ، حتى حين يطالهم المرض الخطير فما أجمل المسرحيات التي تركها لنا الكاتب سعد الله ونوس خاصة التي أنجزها أيام مرضه وهو يعلم به وباقتراب النهاية . فقال مقولته الشهيرة :» نحن محكومون بالأمل .» وعمل بها ، كتب بغزارة وكأنه يسابق الزمن كي يستكمل مشروعه المسرحي . كما جسد الشاعر الكبير أمل دنقل في كتابه (أوراق الغرفة 77 ) الحالة الشعرية المتدفقة في دمج ذات الشاعر ورؤاه بين جدران المستشفى وسط بياض الأسرّة .
هكذا فعل محمود درويش وممدوح عدوان ، الشاعران المرموقان كتبا حالات التصوف الشعري وكتبا عن المرض وكأنه إلياذة هوميروس .

 الطيور في أسراب طويلة
ما أجمل الكبار حين يجمعون تجاربهم ويخطونها مذكرات ويوميات على صفحات أوراق تجمع بين السيرة الذاتية ومسيرة التجربة لتؤرخ للمكان والزمان والوطن .
 في خريف أعمارهم .
في الخريف ومع تساقط أول رذاذ للمطر تتجمع الطيور في أسراب طويلة وهي تلوح بأجنحتها بالوداع لأماكن عرفتها ولأعشاش بنتها ولشجيرات تظللت بها ، طالبة الهجرة للمناطق الأكثر دفئاً دون تأشيرة أو فيزا أو طلب . أسراب الطيور ربما لها أكثر من وطن وأكثر من طبيعة ومع كل موسم تعيد بناء أعشاشها ، لتستكمل دورة حياتها من ربيع إلى ربيع .
وللمحبين طقس خاص في فصل الخريف ومع تساقط المطر الخفيف على الوجنات ، فيغطي أحدهم رأس الآخر بشال أو جاكيت أو كتاب ، بينما تذوب ضحكات العاشقين من نشوى الرذاذ المفاجئ . وإذا كان أحد العاشقين يودع الآخر في هذا الجو الخريفي تتبدل الصورة ويغدو الوداع أشد على النفس إذ يحمل في طياته حزناً أعمق ( كان المطر دافي / وإيدك بشعري تبوح / لا .. لا .. لا تروح ) .
والخريف يختلف من بلد إلى آخر فالخريف في أوروبا مليء بسماء ضبابية ، شمسها غائبة أو عاتبة وأوراق الأشجار تبدو كجحافل طائرة حول الأرصفة . وجموع الناس تحمل المظلات تحسباً لهطول مطر غزير .

خريف القاهرة ودمشق
 أما في القاهرة فيعتبر الخريف أفضل الفصول ؛ الحرارة معتدلة ومنسوب مياه نهر النيل في أعلى درجاته ، وانسياب مياهه أكثر جمالاً ، فيكثر خروج الناس للجلوس على ضفافه وللاستمتاع برطوبته الأليفة وجماليته، لذلك تزداد الرحلات النهرية بأنواعها البسيطة والفاخرة .وأتذكر موسم الخريف في الزبداني وبلودان حين ذهبنا مع بعض عائلات المنطقة للتعرف على جرود الجبل المزروعة بشجر التفاح الأصفر ، تلك الجرود التي تتخللها عيون المياه الصافية المتدفقة والباردة في كل الفصول ، فشاهدنا المجاميع وهي تقطف الثمار بأيديها حبة حبة وتضعها في صناديق خشبية ، بينما تترك التفاحات الساقطة على الأرض ليأخذها مربّي الأبقار لخلطها مع العلف .
يبدو أن الخريف في بلادنا سيأتي هذا العام وهو يشبه الخريف الذي نعرفه ونحن أطفال ، نهاره معتدل وليله مائل للبرودة . فلنعش خريف طقسنا ، ونحاول أن نتماهى مع جمالياته وألوان طبيعته وتبدلاتها ، عندها سنرى أن ما نخسره اليوم ، سيأتي أفضل منه في يوم قادم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com