السبت، 16 يونيو 2012

التدخين... لعبة الصورة والوقت والموت



صورة

سامح المحاريق- لم يكن التبغ معروفا في العالم قبل اكتشاف القارة الأمريكية، ويبدو أن عادة التدخين انتقلت من الهنود الحمر إلى الأوروبيين الذين أطلقوا على النبات الذي يحشو به غلايينهم «التبغ» tobacco  ، وتتلاقى هذه الكلمة مع الكلمة العربية «الطباق» بضم الطاء العربية، وهو شجر يصل إلى قامة الإنسان وينبت بكثافة، ولم يذكر ثمة استخدام لهذه الشجرة، ويبدو أن التبغ كان منتشرا في أماكن قريبة من الحجاز، ولكنه لم يستخدم للتدخين، وعلى ذلك لم تكن تسمية التبغ اعتباطية بالنسبة للمغامرين الأسبان الذين هبطوا إلى العالم الجديد، ولكنها نبتة عرفت عن طريق العرب، ليس ذلك مهما على الإطلاق حين نبحث في قصة التبغ، ففي النهاية انتقل التبغ وعادة تدخينه إلى القارة الأوروبية، كان من نقله يعتقد أنه له إمكانيات سحرية، وأنه من بقايا طقوس الهنود الحمر الغامضة، وكان يعتقد أيضا أن في هذه النبتة الكثير من أسرار الطب الذي كان يقتصر على التداوي بالأعشاب ولم يكن تقدم كثيرا منذ أن قدم ابن سينا كتبه المؤثرة في علوم الطب والصيدلة، وبالمناسبة، فإن ابن سينا الصيدلي لا يقل في أهميته عن ابن سينا الطبيب أو الفيلسوف، ولكن ذلك أيضا لا علاقة له بالتبغ، ولكن له علاقة بالنيكوتين، فالأخير أخذ اسمه من السفير الفرنسي جان نيكوت الذي نقل هذه النبتة إلى فرنسا لتقدم لعلاج الملكة من الصداع. 
كانت التجارة في المتوسط تقوم على التبادل والمقايضة، فبعد الحروب الصليبية والفتوحات العثمانية لم تكن التجارة المتبادلة تقوم على العملة أو المعادن، وإنما تميل إلى المقايضة، وكان طبيعيا أن يلعب الفضول دوره التاريخي في دخول التبغ القابل للتدخين إلى العالم العربي عن طريق مصر والشام، ويبدو أن الفضول لم يقتل القطة وحدها كما يقول المثل الإنجليزي، ولكن قتل أعدادا هائلة من البشر معها، وأطلق على هذا النبات الجديد تسمية (الدخان) وعلى الرغم من أن الولاة ضيقوا على الدخان في البداية، إلا أنه حاز على شيوع كبير، جعل الإمبراطورية العثمانية تزرعه في أراضيها، وأصبحت تركيا وبلغاريا من أفضل المناطق لزراعة التبغ في العالم، ونتيجة لظروف طبيعية فإن التبغ الذي زرعه الأتراك لم يكن ملائما للتدخين بنفس الطريقة التي يدخن بها التبغ الأمريكي، لذلك كانت الأرجيلة ضرورة للتدخين، ويقال أنها بدأت في الهند، ولكن شيوعها الأساسي تاريخيا كان في حوض المتوسط الشرقي، وأصبحت علامة تراثية في المنطقة، ولكنها مرت بالعديد من المراحل بحسب كل مجتمع، فقبلت بصورة كبيرة في الشام، وبقيت في مصر محلا للاستهلاك من الطبقات الشعبية. 
كان العالم يستهلك الكثير من التبغ في القرن التاسع عشر، ولكن شركات السجائر كانت تريد المزيد، فالسيجارة حولت التدخين من الطقس الذي يستلزم إعدادا وصبرا في أشكاله التقليدية مثل الغليون والأرجيلة والسيجار إلى عادة يومية وسهلة وفي متناول اليد، وكانت الصورة الذهنية هي الأساس، فجرى ربط التدخين بالرجال الذين يتمتعون بالجرأة، واللا مبالاة، والقوة، وكذلك النساء، وبدأت ثورة التدخين للمرأة في العديد من الدول مع القرن العشرين، كان أوناسيس، الملياردير اليوناني المعروف هو من أقنع ممثلة ومغنية أرجنتينية شهيرة بأن تدخن سجائره، ليتحول تدخين النساء إلى موضة، على مستوى الرجال كانت المسألة تحتاج إلى تنشيط من وقت إلى آخر، صورة الرجل الذي لا تفارقه السيجارة، كان همفري بوجارت أحد الوجوه التي أشاعت الرغبة في التدخين لدى الملايين، كان النجم الأول للسينما، لم يكن وسيما، ووجهة أقرب للتجهم والحكمة، كانت ملامحه مليئة بالرجولة، وارتبط التدخين بصورة الرجل الناضج والصارم، وكانت صورة ألبير كامي الشهيرة بسيجارته المعلقة في فمه وكأنه عضو إضافي في جسده تغري الكثيرين بأن يقلدوه، التدخين الذي يمكن أن يساعد على الهدوء والتأمل. 
السيجارة تقدمت من خلال سهولتها، وجعلتها شركات السجائر أكثر سهولة مع الوقت، وجرى التطوير وكانت المراحل السابقة حتى قبل عشرين عاما لا تمنع الإعلانات عن التدخين، وأتى نموذج الغرب الأمريكي بقوته وخشونته ليكون رمزا للمدخنين، وأصبحت السجائر الشهيرة مرتبطة بصورة راعي البقر الذي يسيطر على حصانه الهائج وعينيه على هدفه بتركيز وثبات، حتى الصور الشهيرة لكبار مدخني السيجار والغليون لم تستطع أن تزيح السيجارة عن مكانتها الأولى، لا تشرشل أوكاسترو أوجيفارا، ولا مدخني الغليون مثل أينشتين وراسل وسارتر، تمكنوا من إزاحة نظرة بوغارت من وراء دخان سيجارته، بالمناسبة لا يوجد مدخني أرجيلة من المشاهير، ولا يوجد شخص ما يمكن أن تروج صورته للأرجيلة، ولكن الشخص الشهير هو مجرد شخصية متخيلة ترتدي طربوشا عثمانيا، الأرجيلة أصعب طرق التدخين على الإطلاق، ويبدو أنها تليق بشعب لا يمثل الوقت عنده موضوعا ذا أهمية على الإطلاق، فإعداد الأرجيلة الجيدة يحتاج إلى عشر دقائق على الأقل بينما يمكن أن يستمر تدخينها الذي يتطلب أن يتسمر الشخص في موقعه، قرابة الساعة أو أكثر، ومع ذلك ما زالت الأرجيلة تلقى الكثير من القبول والانتشار في العالم العربي، الأمر الذي يجعل الشخص يفكر بأن الوقت ما زال هو آخر شيء نفكر فيه. 
السيجارة سريعة وسهلة، تشبه الوجبة السريعة، والأرجيلة، تشبه مائدة كبيرة، وبينهما السيجار والبايب، للأول عشاقه الذين يمكنهم التمييز بين عشرات الأنواع ومئات النكهات، يتعاملون معه كمن يحتضن يد فتاة جميلة، أما البايب (الغليون) ففي طريقه للإنقراض، أصبح صبغة معينة للمثقفين الذين يتراجعون ويفسحون الطريق أمام google  و wikipedia  لتتولى تثقيف الجميع على طريقتها الشبكية وغير المترابطة. 
قدمت أمريكا الكثير من الشرور إلى العالم، ما أسوأ شيء قدمته أمريكا؟ عادة ما ستتبادر القنبلة النووية، الإجابة خاطئة، إنه التدخين، القنبلة النووية قتلت عشرات الآلاف من البشر، ولكن التدخين يحصد الملايين كل سنة، ولا يبدو أنه يتراجع عن مهمته على الرغم من الحصار الإعلاني والحرب الإعلامية، ولكن التبغ يختلط بالدم ويحاور كرياته بطريقة غريبة تتطلب تثويرا للروح للخلاص من فخ هذه النبتة اللعينة التي أخذت اسمها العربي عبر رحلة من التلاقح الثقافي الذي يبدو أنه أصبح أحد أسباب الموت في العصور الجديدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com