سامح المحاريق - اصطففت جانبا في انتظار أن يلتحق بي أحد الأصدقاء، ولأنني حضرت مبكرا فلم أشعر بأي انزعاج، ووجدت مجموعة من الأطفال يلعبون كرة القدم، أحدهم، في العاشرة من عمره على أقصى تقدير، يلعب بطريقة مذهلة، أعتقد أن أطفال أزقة ريو دي جانيرو، أو شواطئ غانا، ليس لديهم شيء أكثر منه، وأنه لو حصل على فرصة مثلهم، لأصبح لاعبا من الدرجة الأولى، حيث أن تكوينه الجسدي، على الرغم من قصر قامته، يتصف بالقوة والتماسك، وبالمناسبة كان يلعب في الشارع وهو يرتدي خفا بلاستيكيا، ما نسميه شعبيا بالحفاية أو الشبشب، وليس حذائا رياضيا، بمعنى أن إبداعه يمكن أن يضرب في ضعفين أو أكثر لو كان يرتدي الحذاء، أو كانت حالة الشارع تمكنه من اللعب حافيا.
تناسيت الدقائق التي انتظرتها، وكنت أفضل لو تأخر صديقي لدقائق أخرى، وأنا أرى أمامي موهبة استثنائية لطفل يعلب بقدميه وكأنه يستثير جميع الجماليات الممكنة للموسيقى الكلاسيكية أو الألوان في لوحة فنية ثمينة، ولكن ذلك التحليق قطعته سيارات أبيه الذي صفعه على مؤخرة رأسه وأمره أن يركب معه السيارة بطريقة مزعجة، ولما استشعر الأب أنه أثار استيائي وقف بمحاذاتي ليوضح أن تربية الأطفال مسألة صعبة، فما كنت إلا أن أرد أن عليه أن يهتم بإبنه لأنه موهوب فعلا، وأن يتفهم أنه ليس مجرد طفل عادي، فالجميع لن يكونوا أطباء أو مهندسين، أو علماء في وكالة ناسا للفضاء.
يمكن أن الطفل الذي لم أتعرف على اسمه، أخطأ بالخروج دون إذن، ويمكن أنه نسي نفسه ليلعب طويلا، بينما عليه أن يتوجه ليستذكر دروسه، ولكن ليست هذه الطريقة التي يمكن أن يجري فيها التعامل مع الموهبة، فالمكان الطبيعي لهذا الطفل، وعشرات مثله، أن يكونوا في مدارس كروية تابعة للأندية الرياضية، وواجب الأندية أن ترسل بالبصاصين واللاعبين المتقاعدين ليتجولوا في الشوارع بحثا عن هذه العينة من الأطفال، صحيح، أن معظم أنديتنا لا تمتلك الإمكانيات لفعل ذلك، ولكنها ستبقى مجرد أندية هزيلة وضعيفة باستمرار إن لم تفكر في فعل ذلك.
لنتصور أن أندية كبيرة في الأردن، ودون ذكر أسماء، تنازل الإداريون والمدربون الذين يعشقون الإعلام وفلاشات الكاميرات، للنزول إلى الشوارع والبحث عن هذه المواهب، وأعدوا برامج يمكن أن تنهض بمواهبهم وتنظمها وتجعلها أكثر فعالية وجاهزية، يمكن لهذه الأندية أن تحصل على أموال مقابل تسويق هذه المواهب لاحقا للأندية العربية والأوروبية الثرية، فأطفال الدول المتقدمة لا يمتلكون مواهب تفوق أطفالنا على الإطلاق، لا بدنيا ولا عقليا، ولكن توجد مؤسسات تحتضنهم، وتعمل على الارتقاء بهم وتطويرهم. الأسرة أيضا، هي واحدة من أدوات قمع الموهبة، وتبديدها، في أي مجال، وفي جميع المجالات، جميع الأسر تريد من أطفالها أن يكونوا متفوقين دراسيا، وأن يحصلوا على مقاعد جامعية في كليات علمية مثل الطب أو الهندسة، مع أن آلاف الأطباء ليسوا سوى فائض زائد لا يمكنهم سوى القيام بالعمليات البسيطة، والتعامل مع الأمراض العادية، بينما شخص متفوق واحد في الرياضة أو الفنون، يمكنه أن يقدم لنفسه ومجتمعه ما يتفوق على منتجات كليات كاملة، ويمكن أن نتصور، مثلا، أن ألمانيا يمكن أن تتنازل عن فرصة إنتاج آلاف من الأطباء والمهندسين، مقابل أن تحصل على نصف فرصة من بيتهوفن أو باخ. الرياضة والفن والأدب والموسيقى، هي الأمور التي يراها البريطانيون جديرة بالكبرياء الوطني، ذلك عدا طبعا عن العلوم والمعارف الأخرى، أما في بلادنا فإننا لا نقدم شيئا على المستوى العلمي أو المعرفي، ولا نعتقد أيضا بأهمية أن نتقدم في أي مجال آخر، وباستثناء الطبقات الموسرة التي يمكن أن تحصل لأبنائها على فرصة من أجل الالتحاق بمدارس خاصة تهتم بالأنشطة غير المنهجية والبناء المتكامل للشخصية.
إن أجيالا من الأطفال؛ قمعت مواهبها في مرحلة مبكرة، وكان مشهد البداية المبكر جدا جدا، أن يهبط الأب الغاضب إلى الشارع وأن يقوم بإتلاف الكرة التي يلعب بها أبناؤه، أو أن يقوم بتهشيم آلة موسيقية على الحائط لأنها تلهي الإبن أو الإبنة عن الدراسة وتحصيل العلم، أو أن يمزق دفتر الرسم ويكسر أقلام الألوان، لأن ابنته لم تحصل على درجة جيدة في الاجتماعيات.
.. وبدلا من أن نكسب رسامة من الدرجة الأولى، فإننا نحصل على معلمة في مدرسة ابتدائية تقوم بانتظام وبصورة حثيثة بنقل جميع عقدها واحبطاتها إلى أبناء الآخرين، وتجعل من ذاتها المقموعة هي النموذج الذي يجب أن يحتذى، ولا مفر من اتباعه والتشبث به، وغير ذلك، فإن الأطفال سيكونون عرضة لاتهامات التقصير والفشل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق