الأحد، 10 مارس 2013

عصر السخرية !


صورة

سامح المحاريق -  يتوجه العالم لأن يكون أكثر ميلا للسخرية، فالكتابة الساخرة مثلا، أصبحت تستحوذ على صدارة الصحافة اليومية، البرامج الساخرة، سواء على المحطات التلفزيونية أو من خلال الانترنت انتزعت مكانة متقدمة في أولويات المشاهدة، الأغنية الساخرة تتقدم بسرعة كبيرة، فما هي أسباب النزعة للسخرية، خاصة أن السخرية في حد ذاتها ليست ظاهرة قديمة، ويجب هنا التفريق بين السخرية والكوميديا، من الناحية الفنية والأدبية، وبين السخرية والتهريج، وكيف يستطيع المبدع الساخر، أيا يكن ميدانه، أن يحتفظ بالمسافة الضئيلة التي تحول دون انزلاقه في فخ التهريج.

 الشاعر الحطيئة
السخرية بدأت في الأدب العربي مثلا مع الشاعر الحطيئة، وما وصل إلى يدينا من أدب جاهلي يخلو بصورة لافتة من السخرية، وبافتراض الحطيئة كأول الآباء المؤسسين للأدب الساخر، فإن ذلك يجعل السخرية مرتبطة بالمدينة، ولكن ذلك لا يعني أن تخلو الحياة الريفية أو البدوية من السخرية، ولكن دون أن يتم تقديرها أو الاعتراف بها، فالساخر في المجتمعات المغلقة ليس شخصية تحظى بالاحترام الكافي، ولا يحصل على فرصة التطور ليتحول إلى فاعل اجتماعي، فهذه المجتمعات بطبيعتها محافظة، وتميل للابتعاد عن أسباب البغض والتشاحن، بينما المدينة تتيح الفرصة لمزيد من التسامح في مجال السخرية، حيث أنها تتكون في النهاية من مجموعة من الكيانات الأسرية والفردية، وليس من كيانات قبلية أو جهوية.
النقطة الثانية، أن السخرية ارتبطت بوجود السلطة، أو الدولة، ومظاهرها، وقدرتها على احتكار العنف، فالشخص الذي توجه له الحطيئة بالسخرية والاستهزاء في شعره الملغز والماكر، دع المكارم لا ترحل لبغيتها، لم يتوجه للانتقام من الحطيئة بصورة مباشرة، وهو رد الفعل الذي كان طبيعيات في مرحلة ما قبل الإسلام، ولكنه توجه بالشكوى إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، الذي عاقب الحطيئة بحبسه لكفه عن ايذاء الناس، وبالتالي، يمكن أن تعتبر الدولة محفزا للسخرية من حيث هي تقدم الحماية للساخر من الانتقام المباشر الذي يمكن أن يلحق به، كما أن الدولة فجرت لاحقا، وعند تخليها عن مفاهيم العدل والمساواة، طاقة السخرية كوسيلة للتعبير عن الغضب والاستياء، فكان شعر الهجاء السياسي أحد الأدوات التي نهضت بالسخرية وارتقت بها، كمثل ما حدث مع دعبل الخزاعي.

العصر العباسي
النقطة الثالثة، والأخيرة، هي في مجتمع يميل إلى الطابع الاستهلاكي، والمجتمعات الريفية والبدوية بطبيعتها تعتمد على الانشغال بالانتاج، فكل فرد أو مجموعة تعمل بصورة متضافرة للحصول على رزقها، بينما المسألة مختلفة في المجتمعات المدنية حيث يمكن أن يعيش الفرد على هامش المدينة، وأن يجد بين تخصيص الوظائف فرصة ليعيش على هامش المدينة، أو في مهن كالكتابة، ولذلك كانت بغداد في العصر العباسي منطلقا لتنامي دور السخرية في الأدب العربي، وكانت أشعار أبو نواس وبشار بن برد تحمل لمحات ساخرة واضحة، كما ظهرت الكتابة الساخرة مع الجاحظ، وأخذت تتقدم، ولكنها لم تتحول إلى ظاهرة إلا في مرحلة متأخرة.
الموجة التي نعيشها حاليا هي امتداد لتقاليد الساخرين الذين أخذوا على عاتقهم مواجهة الاستبداد السياسي في العصر العثماني، وتحديدا منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وكانت هذه الموجة تتركز في مصر والشام، وبدأت تتحول إلى موضة في الكتابة، وإن لم تلقى الاحتفاء والتقدير الاجتماعي إلا بعد ذلك بزمن طويل، نتيجة تأثر الكتاب والمثقفين العرب في مطلع القرن العشرين بالمسرح الفرنسي المترجم، وخاصة أعمال موليير، وفي هذه الفترة التي أخذت تتشكل فيها السخرية كأحد أدوات وأشكال التعبير الإبداعي والفني.

 السخرية العربية
 فإن السخرية العربية أيضا أخذت تميل إلى ذلك النوع من المرارة الذي يعبر عن الوجع والثورة المبطنة، فالسخرية في العالم العربي ليست نوعا من النقد الاجتماعي، أو استغلالا لمفارقات المجتمع الاستهلاكي، ولكن في الأساس احتجاجا على الأوضاع المعوجة والشاذة التي أصابت المجتمعات العربية على المستوى الخارجي، المتمثل في حالة التردي المستمر في أوضاعها لدرجة وصولها إلى التبعية الصريحة مع ما يترافق مع ذلك ،من مظاهر إذلال تتناقض بصورة صارخة مع الصورة التاريخية التي يحملها العرب لأنفسهم، وعلى المستوى الداخلي.
   الفرد العربي لم يعد يستطيع في مرحلة طويلة من تاريخه، أن يتفهم الأسس والأسباب التي يحدث على أساسها الحراك المجتمعي، والكيفيات التي تدفع البعض للتقدم والسيطرة وتفتح أمامهم أبواب الارتزاق والثراء، بينما تلقي بالأغلبية في معاناة مستمرة وتجعلهم يقعون في حبائل الفقر والعجز، ولا أحد يمكنه أن يعرف سببا مقنعا لذلك، فأتت السخرية لتعلن ليس رفضها لكل ما يحدث، ولكن لتؤكد على فجائعيته وكارثيته.
السخرية ستبقى تتقدم لتتحول إلى لغة مشتركة بين الجميع، وكأنها تقول، لا شيء يستحق لأن يؤخذ على محمل الجد في العالم من حولنا، ولا توجد أسباب مقنعة يمكن أن تبرر الاختلال الذي نعايشه على مدار اليوم والساعة، ولكن ذلك سيدفع بمزيد من السلبية، خاصة أن الحلول لا يمكن أن تخرج من نكتة، والمشاريع لن ترتكن في النهاية على أجساد تهتز من الضحكة والقهقهة، إلا إذا كانت من النوع الذي يدفع إلى البكاء في النهاية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com