الأربعاء، 5 سبتمبر 2012

ام كلثوم بوصـلة الغناء العربي

صورة

نضال حمارنة  - أم كلثوم الفلاحة الفقيرة ، القادمة من وسط دلتا النيل ( محافظة الدقهلية ) إلى القاهرة ، لبست ثوب الرجال وقهر الأنوثة بداخلها . بعد وفاة والدها تقرر نزع رداء التابع وترفض عرض الزواج من قريب لها .
تختار أن تكون كائناً مستقلاً ؛لا يقبل الخضوع أو الابتزاز تحت أي مسمى . وأصبح تعطشها وحبها للغناء مساوياً للحرية ، ومن ثم إلى تشكّل نواة هدفها الإبداعي على طريق كانت تعرف أنه مديد ، يحتاج منها إلى صبر التعلّم والتدريب وتثقيف الصوت والذات وكسب الخبرات والقدرة على التكيف مع المتغيرات لبلوغ حلمها ؛ أن تتبوأ الصدارة ، باستخدام عبقريتها وموهبتهاللحفاظ على تلك الصدارة لآخر دقيقة في حياتها .

 ذبذبات الأنوثة والذكورة معاً 
أعتقد أن صوت أم كلثوم ( طفرة وراثية ) اجتمعت فيه كل الدرجات وكل ذبذبات الأنوثة والذكورة معاً ، وهو ( علمياً) معجزة نادرة غطت مساحة ديوانين من وسط ( موقع الباريثون ) . قوة صوتها الذي تداريه وتداديه بالابتعاد لأكثر من متر عن المايكروفون ، فإذا ما ارتفعت نبرات الأداء ابتعدت أكثر ، إلى براعتها بالسيطرة عليه (الصوت) كي تؤدي الجمل الغنائية الأكثر صعوبة بتمرس وإعجاز فنانة عليمة . وهي طفلة كانت تؤدي بتبتل قرآني عذب ،ثم مع (أبو العلا محمد) الغناء المستقى من التقاليد التركية ،واستحضارها للغناء الأندلسي . مع بدايات تعاونها مع ( أحمد رامي ،محمد القصبجي ،وزكريا أحمد) كانت تغني للنخبة .

سيدة ارستقراطية شرقية
قررت التنصل من مظهرها المشابه للأخريات وأن تبتكر لنفسها (شكلها الخاص)»ستايل» حافظت عليه على مدى كل السنوات؛ أن تظهر كسيدة ارستقراطية شرقية ،تلف طرف المنديل على إصبعها ــ وهو تقليد تركي كان سارٍيا آنذاك ومازالت تتبعه المغنيات التركيات الكلاسيكيات إلى يومنا هذاــ ، حتى أنها كانت تطلب من صائغها تفصيل مجوهرات من اقتراحها تتناسب مع خلفيتها الثقافية ، من منّـا ينسى ذاك الهلال الماسي على صدر فستانها؟ .

 الصوت لصالح اللحن 
إثر خلافها مع( زكريا أحمد ) ارتأت أن لا تقدم تنازلاً مهما كان بسيطاً ، ولو أرادت البقاء في الصدارة عليها أن تقدم أغانيها «إنجازها» بشروطها المستقلة الخاصة بها «وحدها» ، فاكتفت بمرحلة ما، بالتعاون مع( رياض السنباطي ) ،وظلت تسوق مختلف الأعذار، لكل مقترح يدعوها للتعاون مع( فريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب) ليس لخوفها من التحديث ، بل لتوجسها من نديّتهما مما يستدعي منها القيام بتنازل ـ الصوت لصالح اللحن ـ و إلا لماذا تعاونت مع شباب التجديد والتحديث ( بليغ حمدي ، محمد الموجي ، كمال الطويل) ! إلى أن حدثت تلك التسوية بينها وبين( محمد عبد الوهاب) بطلب شخصي من الرئيس جمال عبدالناصر ، وأشك أنه كان لعبد الوهاب دور غير مرئي فيه ـ إلا أنه كان في صالحنا وصالح تطوير الأغنية العربية .

عقول وقلوب الأجيال
بعد تغير النظام السياسي في مصر ، أصبح المذياع متاحاً لعامة الشعب ، فتعلق الجمهور العريض بصوتها ، وتخلّت هي نفسها عن فكرة كونها «مطربة النخبة» وأخذت تشق طريقها إلى عقول وقلوب الأجيال والأذواق من المحيط إلى الخليج كافة ، فغدت « علامة « تطور فنون الأداء والغناء والموسيقا الكلاسيكية العربية ومجال اختباره وبوصلته . 
هشـّـمت أم كلثوم أداة الاستدراج التي اعتادت / المطربة ، المرأة / التلويح بها ، وكأنها تمارس أقصى ما يمكن من الإخلال بمعايير الاستقبال .. التلقي ..والاحتواء .
وكان أحب الألقاب إلى نفسها ( لقب الســت) الذي توجتها به الطبقات الشعبية في مصر لاقترابه من مرجعياتهم الروحية .

قولي ولا تخبيش يا زين 
ليست فقط أغانيها الطويلة خالدة ، فالطقطوقة الشعبية / على بلد المحبوب ودّيني زاد وجدي والبعد كاويني./ مازالت على اللسان . إلى جرأتها غير المبتذلة في أحد سكيتشات أفلامها / قولي ولا تخبيش يا زين ....الُقبلة حلال ولا حرام ، القبلة إن كانت للملهوف .. ياخدها بدل الواحدة ألوف ، ولا يسمع للناس ملام. / اليوم هناك فيتو على هذه الأغنية في المحطات التلفزيونية الأرضية والفضائية !! . وحين ينتاب أم كلثوم عدم الرضا الكامل عن أغنية ما قدمتها وأحبت كلماتها كما حدث لأغنية ـ قصيدة (أراك عصيّ الدمع) للحمداني ،فطلبت من (رياض السنباطي) لحناً لها تجاوز اللحن القديم بحيث كانت موسيقاه شديدة الالتصاق بمضامين الكلمات . قدّمت « نهج البردة» ل(أحمد شوقي)، وبالمقابل منحت الطبقات الشعبية حالة تصوفية - استحضار الفرح - أثناء التقرب لله ، وليس استحضار الرعب من جلاله ، عبر كلمات أغنية « القلب يعشق كل جميل « من ألحان رياض السنباطي الأكثر من متفائلة .

 غلبـني الشوق وغلّــبْني 
علّــمتنا أم كلثوم فن الإصغاء بإرادتنا لشيء نريده ونحتاجه ونحبه، علّــمتنا عدم المكابرة والانزياح عن خنق وكبت مابدواخلنا ؛ أن نعطي فرصة لِمَا هو خاص وخبيء جداً ، مساحة للتعبير عن الحزن والوجد والشوق وتفقد حسّية الضعف الإنساني / غلبـني الشوق وغلّــبْني / لهذا الإحساس العارم بالصهد الداخلي المحتاج لصوتها . كأنها تجمع لحظات مختارة من زمن كل واحد منا ، أجزاء من حيواتنا / فكروني ازاي ..هوّا أنا نسيتك/ . ولأنها كانت تعرف معالم وسجايا صوتها ، تتفنن في الانطراح بقوة شعورية تجود بالأداء إلى أقصاه/ غُلبت أصالح بروحي عشان ما ترضى عليك.. وأسأل عنك والقلب كان غضبان منك ، وأحمل همك وأنا اللي طوووول...../ بحركة بندولية ذهاباً وإياباً/ ما بين ُبعدكَ وشوقي إليك وبين قُربك وخوفي عليك ، دليلي احتار/ أوحركة كفيضان النيل صعوداً وهبوطاً/ جددت حبك ليه/ و/أروح لمين وقول يا مين ينصفني منك/ وأحياناً دوراناً نتخيله لانهائياً وهي تستأنف شدوها ومناجاتها الرهيفة / ابعت لي قولي انتَ فين لو تقدر بسْـتنى منك كلمتين مش أكتر ، يطمنوني حبة عليك وعل المحبة ../ إلى أن تحسمه بالقفلات .. بسكتات تحوّلها هي نفسها 
ــ بعلاقة تبادلية ــ إلى متلقية تستشعر تلك المسافة الحسّـية بين انفعال الجمهور المستمع والأغنية ككل، وتلمس كيف تؤرجح عاشق صوتها، وتدفع به ليختلج آه(اته) الخاصة به / ستاير النسيان نزلت بقى لها زمان .. عايزنا نرجع زي زمان قول للزمان إرجعْ يا زمان / وتواصل دغدغة أدق التفاصيل الجوانية للمستمع/ المستمعة خاصة حين تتغارق في أثيرية كفاءتها الاستثنائية في استفزاز الهاجع في بطين القلب، أو محاولة سحب المركون داخل تعاريج النفس / وضاع الحب ضاع ما بين عِند قلب وقلب ضاع / تعتب عليَّ ليه أنا بإديَّا إيه .. فات الميعاد/ . الانفعال في الوجوه يطوف فنرى الدوار الملذوذ ، الموصول بحمولات أشبه ما تكون دراما الحالة .
عندما أستمع إليها أشعر أن الرغبة تقاوم قيدها بين الانخطاف والحضور ، بين التمسّـك بجوهر الإثارة والكشف عن سر الجاذبية ../ من فرحتي تُـهت مع الفرحة من فرحتي لا بنام ولا بصحى / وأن / الزمن لُـهْ حالات يا ما بيغيّر حاجات/ و / ح أقابله بُكرة / وأستفيض / هات إيديك ترتاح للمستهم إيديَّ / كأني أطوي ملف جحيم غابر بِ / افرحْ يا قلبي لك نصيب تبلغ مُناك و يّا الحبيب / .


صوت أم كلثوم .. ( طفرة وراثية ) اجتمعت فيه كل الدرجات وكل ذبذبات الأنوثة والذكورة معاً ، وهو ( علمياً) معجزة نادرة غطت مساحة ديوانين من وسط ( موقع الباريثون ) . قوة صوتها الذي تداريه وتداديه بالابتعاد لأكثر من متر عن المايكروفون ، فإذا ما ارتفعت نبرات الأداء ابتعدت أكثر ، إلى براعتها بالسيطرة عليه (الصوت) كي تؤدي الجمل الغنائية الأكثر صعوبة بتمرس وإعجاز فنانة عليمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com