الأحد، 4 مارس 2012

من معان والجفر وجوارها انطلقت الحضارة لبلدان حوض المتوسط

صورة

ماجد جبارة  - ليس في هذا القول مبالغة فهذا ما أكدته نتائج الاكتشافات الأثرية الميدانية، وأقوال الرحالة والمؤرخين، ونتائج البحث العلمي المخبري.
ففي كل وادٍ سحيق وعلى قمة كل جبل شاهق داخل الأراضي الصحراوية تمتد حضارات الجفر ومعان وجوارها من البلدات والقرى لتؤكد بما لا يقبل الشك أن أرض الأردن المباركة معطاءة على الدوام وباستمرار منذ فجر التاريخ وليومنا هذا.
هذا ما أكدته نتائج الدراسة التي قام بها الباحثان المتخصصان في علم الآثار والانثروبولوجيا وهما الدكتور محمد وهيب العميد السابق لمعهد الملكة رانيا للسياحة والتراث في الجامعة الهاشمية، والدكتور عبد العزيز محمود مدير مركز إحياء التراث الإسلامي في جامعة آل البيت، حيث يقول الباحثان اللذان أصدرا كتاباً حول هذه الاكتشافات أنهما أمضيا أكثر من عام في دراسة حضارات معان وخاصة منطقة الجفر وسهولها وأوديتها وجبالها المترامية هنا وهناك.
وأوضحا أن بقايا حضارات العالم القديم التي ترجع إلى أكثر من نصف مليون عام مضت قد ظهرت في منطقة القاسمية قرب بلدة سويمرة، حيث أستوطن الانسان الأول هذه المنطقة واستطاع أن يسخر الحجارة الصوانية لخدمته وتطوير مجتمعه، لكنه قفز قفزة نوعية خلال الآف السادس قبل الميلاد عندما أسس أولى المدن في العالم القديم بفن هندسي رائع، وقف أمامه علماء الغرب مبهورين لعظمة هذه الانجازات التي تحققت في جنوب معان في حضارة عين جمام وفي غرب معان في حضارة بسطة وفي وادي موسى في حضارة بعجة وفي قلب مدينة البتراء في حضارة عين البيضا، وها هي عالمة الآثار ديانا كركبرايد تؤكد بما لا يقبل الشك ومنذ عام 1956م أن نظام الفيلا الهندسي في عمارة البيوت السكنية كان متعارفاً عليه قبل حوالي ستة الآف عام قبل الميلاد، ثم يأتي عالم الآثار الالماني هانز جيبل ليؤكد أن حضارة بسطة كانت حضارة مزدهرة وإن المدينة المكتشفة هناك ما هي إلا نموذج حضاري متقدم في شتى المجالات وخاصة الهندسية.

حضارة عين جمام من اعظم الحضارات 
ويؤكد الباحثان د.وهيب ود. عبدالعزيز أن نتائج البحث العلمي والتحاليل المخبرية قد أكدت أن حضارة عين جمام في رأس النقب جنوب معان من أعظم حضارات جنوب بلاد الشام وحوض البحر المتوسط بدون منازع، ذلك أن فنون العمارة والطراز الهندسية التي قام بتنفيذها إنسان معان القديم، قد فاقت كل التوقعات فها هي الاعمدة الداعمة للسقوف تقام على زاوية قائمة بـ تسعون درجة، وأعمدة أخرى ملاصقة للجدران وغرف ذات نظام هندسي مربع ودائري ومستطيل، وأدراج على السفوح لتسهيل التنقل بين البيوت والأحياء، وغرف لتخزين الحبوب والأغذية خلال فصول العام، الأمر الذي جعل من حضارة عين جمام متميزة وفريدة بادواتها الصوانية والعظمية والعاجية وطقوس العبادة والدفن، مما جعلها متقدمة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والفكري والديني والهندسي، فكانت ثقافة وصل صدى انجازاتها لآسيا الصغرى وحضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل.
وأضاف الباحثان أن منطقة الجفر وجوارها جذبت علماء الآثار والتاريخ من اليابان وأوروبا نظراً لكثافة انتشار بقايا الحضارات القديمة على أرضها، بحيث أنها لفتت الاتنباه لتميزها، فها هي الاسوار الحجرية الطويلة والممتدة وعلى جانبها أبراج ودعائم أطلق عليها تسمية حرف K باللغة الانجليزية، ولا زالت تسلب عقول العلماء، من حيث حقيقة الوظيفة التي كانت تقوم بها هذه الجدران الممتدة عبر سهول الجفر في مواقع جبل حجيرة ووادي أبو صفاة وموقع أم رجام.
وكذلك الحال لمناطق جبل خزيمة، وقاع الجفر، ووادي غوير وغيرها من المناطق في باير ومحيطها امتداداً إلى المناطق الحدودية، حيث ما زالت الجفر تحتفظ بمعالم أثرية تاريخية منذ العصور الحجرية القديمة وحتى وقتنا الحاضر، ونظراً لتميز البيئة الطبيعية في الجفر فإن المنطقة تعتبر مصدراً هاماً للمعلومات حول التاريخ المبكر للبشرية حيث يلاحظ أن المنطقة أصبحت هدفاً للعلماء والباحثين لما تحويه من إرث كبير بحاجة لاكتشاف.

ارث يضرب بجذوره عميقا 
كما قام الباحثان بتوثيق التراث المادي واللامادي لبلدة الجفر من حيث المباني التراثية مثل قصر الشيخ عودة أبو تايه، وقصر الشيخ محمد بن دحيلان، وقصر الشيخ بخيت الدراوشة، وبيوت شيوخ الجفر الأوائل، ولا زالت  أجزاء من هذه القصور والبيوت التراثية ماثلة للعيان، وتشكل مصدراً هاماً للسياحة الثقافية والتراثية، كما تناول الباحثان التكوين السلالي للجفر والنسق الاجتماعي والاقتصادي والحرف والصناعات التقليدية، وتقاليد الصيد واستقرار الجماعات المرتحلة، إضافة إلى الواقع التعليمي والمساجد والمناسبات مثل الزواج، والأعياد الدينية والأفراح والاتراح والمزارات والأزياء بشقيها للرجال والنساء، كما تم تخصيص جزء من الدراسة للمساكن القديمة في الجفر.
وأخيراً فإن الانسان الذي يطلع على هذا الإرث العظيم ليفاخر العالم بأهميته وعمق جذوره التاريخية الضاربة في الأعماق، هذه الاكتشافات التي ستسهم بدون شك في إعادة كتابة التاريخ القديم للمملكة، لتؤكد أن حضارات العالم القديم كانت هنا قبل أن تنتشر في مناطق أخرى من العالم، وأن التجارب الأولى لانتاج الأدوات وتصميم المباني المعمارية كانت قد جرت هنا ثم انتقلت إلى باقي مناطق العالم.
وخلصت الدراسة إلى القاء الضوء على جوانب هامة لم تكن معروفة من قبل، وأن الجفر قد حظيت باهتمام الهاشميين منذ نشأتها، حيث زارها جلالة الملك عبدالله الثاني وافتتح فيها عدداً من المشاريع الحيوية، وأمر بتحويل السجن فيها إلى مركز تدريب وتأهيل وتشغيل، فالجفر هي نموذج متميز لبلدة أردنية ذات تاريخ عريق، وأن الدور الذي قامت به على مر العصور يشير بوضوح إلى تفردها في عدة نواحي منها ما هو طبيعي متمثل بالجبال والاودية والسهول منها ما هو إنساني مرتبط بالنشاطات البشرية عبر العصور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Tahsheesh.blogspot.com